الطب: علاج الأمراض الطفيلية
يويو تو (نصف الجائزة): صينية تعمل بأكاديمية الصين للطب الصيني التقليدي في بكين.
ساتوشي أومورا (ربع الجائزة): ياباني يعمل بجامعة كيتاساتو في طوكيو.
ويليام كامبل (ربع الجائرة): أيرلندي أمريكي يعمل بجامعة درو في ولاية نيوجيرسي.
عالمنا عالم شديد التعقيد على المستوى البيولوجي، وهو يعج بملايين الأصناف من الكائنات، والتي يصيبنا بعضها بالأمراض كما نعرف، ومنها الكائنات الطفيلية، وبالأخص الديدان الطفيلية التي تصيب تقريبًا ثُلث سكان الأرض، ومعظمهم من سكان أفريقيا وجنوب أسيا وأمريكا اللاتينية ممن تصيبهم الطفيليات بأمراض خطيرة مثل الملاريا، والذي عكفت عليه يويو في الصين بعد أن توصلت لإمكانية علاجه بنبات أرتيميسيا أنوا، واتبعت معه تقاليد الطب الصيني القديم لتستخلص المكون النشط ضد الملاريا فيه، وهو أرتميسينين Artemisinin، وتنتج علاجًا فعالًا يقتل الملاريا بسرعة في مراحل تطوره الأولى ينقذ الآن مائة ألف شخص سنويًا في أفريقيا، وبل ويبشر بالقضاء على المرض تمامًا في المستقبل.
في نفس المجال، قام أومورا المتخصص في الأحياء الدقيقة وعزل المكونات الطبيعية، بالتركيز على بكتيريا ستربتومايسيز، والتي تعيش في التربة وتنتج مكونات عديدة مضادة للأمراض (مثل مكون ستربتومايسين الشهير)، لينجح في عزلها وتطويرها في مزارعه البكتيرية بشكل موسع، واختيار 50 نوعًا نشطًا ضد الكائنات الدقيقة الضارة، وهي مجموعات تحصل عليها كامبل في أمريكا وبدأ في اكتشاف إمكانياتها، وكشف أن أحدها فعال جدًا ضد الطفيليات التي تصيب الحيوانات المنزلية وحيوانات المزارع، ليقوم بعزله واستخلاصه وتسميته بأفِرميكتين Avermectin، والذي تم تعديله كيميائيًا لإنتاج صورة أقوى منه هي إفرميكتين Ivermectin.
تمت تجربة إفرميكتين، ليس على الحيوانات فقط، ولكن على البشر المصابين بأمراض طفيلية، ليثبت كفاءة أيضًا في القضاء عليها، ويؤدي بالتبعية إلى تدشين نوعًا جديدًا من الأدوية الأكثر فعالية ضد الأمراض الطفيلية عند البشر والحيوانات على السواء، ومنها علاج الملايين من مرضى العمى النهري، وهي عدوى طفيلية تؤدي للعمى، وداء الفيل، واللذين أصبحا الآن قاب قوسين أو أدني من الاختفاء بالكامل من تاريخ البشر الطبي نتيجة نجاح إفرميكتين.
الفيزياء: كشف لغز تحوّل النيوترينو وكتلته
تاكاكي كاجيتا: ياباني يعمل بجامعة طوكيو.
آرثر ماكدونالد: كندي يعمل بجامعة كوينز في كندا.
يعج الكون الذي نعيش فيه بأعداد لا حصر لها من جُسيمات النيوترينو الصغيرة والتي نادرًا ما تتفاعل مع المادة، ولعل المليارات منها تخترق جسدك وأنت تقرأ هذه الكلمات دون أن تشعر بها، وهي موجودة إما بسبب الانفجار الكبير، أو بسبب النجوم المتفجرة وتفاعلات المفاعلات النووية والأشعة الموجودة بشكل طبيعي في الكون وغيرها، بيد أن وجود تلك الجسيمات أصلًا ظل محل شك لفترة طويلة، فتفاعلها المعدوم تقريبًا مع المادة يعني استحالة الكشف عنها، وبالتالي تظل حبيسة النظريات، غير أن اكتشافها صار ملحًا بل ومتوقعًا لأنها كانت جزءًا من نظريات تم إثباتها، ليصبح اكتشاف النيوترينو مسألة وقت، ووقت قصير في الواقع نتيجة تزايد بناء المفاعلات النووية منذ الخمسينات وما بعدها، والتي تؤدي لزيادة أعداد النيوترينوات الممكن التقاطها، ليتم التقاطها لأول مرة بالفعل عام 1956.
ماذا فعل الحائزون على نوبل هذا العام إذن؟ لقد حلوا لغزًا وقعنا فيه منذ اكتشاف النيوترينوات، وهي أن عددها كما تتنبأ النظريات، أكثر من عددها المُقاس على الأرض، والذي يتم قياسه باستخدام حاويات مياه ضخمة تحت الأرض يترك فيها الجسيم الصغير آثاره، ليصبح اللغز الجديد ليس وجود تلك الجسيمات من عدمه، ولكن أسباب نقص عددها أو اختفائها، وهي أسباب بحث فيها الفيزيائيون طويلًا، حيث اقترح أحدهم أن النيوترينو لا يختفي ولكن يتحول من صورة لأخرى ليس إلا، فهو يوجد في الكون في ثلاث هيئات؛ إلكترون نيوترينو، وموون نيوترينو، وتاو نيوترينو، والأول كما يشي اسمه هو قرين الإلكترون العادي الذي نعرفه، وهو النوع الأخف والذي لا تنتج الشمس سواه.
تباعًا، كان الاقتراح بأن ذلك النيوترينو المقترن بالإلكترون يتحول لإحدى هيئتيه الأخرتين الأثقل والأقصر عمرًا، وبالتالي لا يترك خلفه أثرًا ليعطينا عددًا ناقصًا مقارنة بالنظريات، وهو ما تم إثباته بالفعل عن طريق بحوث كاجيتا، والذي عمل على النتائج التي أظهرها حاوي مياه كاميوكاندي، إذ أظهرت نتائجه أن جسيمات الموون التي تخلفها الموون نيوترينو، وهو النوع الثاني، أكثر عددًا عندما تأتي من الشمس للحاوية مباشرة، عن تلك التي تخترق الأرض كلها وتصل للحاوية من الأسفل، وهو دليل أن النيوترينو يتحول بالفعل، فهو كلما سار مسافة أطول كلما قل عدده نتيجة زيادة الأعداد المتحولة.
تأكدت تلك النتائج من مرصد سادبري تحت الأرض لالتقاط النيوترينو الخفيف في كندا، والمملوء بالماء الثقيل لا المياه العادية، والماء الثقيل يقدم ميزة مهمة وهي أن المرصد ولو لم يرصد النوعين الثقيلين من النيوترينو، فإنهما يتفاعلان على أي حال مع الهيدروجين الثقيل (المعروف بالديوتريوم) ويتركان أثرًا مثل النيوترينو الخفيف، وكانت النتائج المرصودة أن أثر تلك التفاعلات يترك العدد الصحيح الذي تنبأت النظريات، في حين كانت أعداد النيوترينو الخفيف المرصودة مباشرة من الشمس أقل، لتثبت بوضوح أن جزءًا منها تحول للنوعين الثقيلين، واللذين تركا أثرهما بالتفاعل مع الماء الثقيل.
أحدثت تلك النتائج ثورة لأن النظريات تنبأت بأن النيوترينو لا كتلة له مثل فوتونات الضوء، في حين أن عملية التحول تلك تستحيل عمليًا بدون كتلة، وهو ما يعني أنه يملك في الحقيقة كتلة ضئيلة جدًا لا تزال قيد البحث لمعرفة قيمتها بالضبط، وهي قيمة على صغرها تفوقها بكثرة أعداد النيوترينو التي تغمر الكون، حتى إن النيوترينوات الموجودة في الكون كلها إذا جُمعت مع بعضها يفوق وزنها كل النجوم المرئية، ولكن لماذا يتسم النيوترينو بتلك الخفة؟ ولماذا يختلف عن كل الجسيمات الأخرى العادية المعروفة في الكون؟ كل تلك الأسئلة ربما نجد إجاباتها في المستقبل القريب، لنقدم صورة أكمل للنموذج المعياري.
الكيمياء: صيانة الحمض النووي
توماس ليندال: سويدي يعمل بمعهد فرانسيس كريك، ومعمل كلير هول في بريطانيا.
بول مودريتش: أمريكي يعمل بمعهد هاورد هيوز الطبي، وجامعة ديوك بولاية نورث كارولاينا.
عزيز سنجر: تركي أمريكي يعمل بجامعة نورث كارولاينا في الولايات المتحدة.
بينما يتم نسخ حمضك النووي ملايين المرات يوميًا أثناء تكاثر الخلايا وتجديدها، يبدو وأن عملية النسخ تلك تتم بدقة متناهية تحفظ معها بصمتك الجينية، حيث تتماثل كل نسخ الحمض النووي الموجودة داخلك من يوم ميلادك إلى يوم وفاتك مع تلك التي تشكلت لأول مرة بينما تلقحت البويضة بالحيوان المنوي القادمين من أبويك، غير أن عملية النسخ المتكرر على مدار حياتك هي معجزة كيميائية مستحيلة فعليًا نتيجة قابلية تلك العملية للوقوع في الخطأ بسبب اختلال المنظومة التي تقوم بالنسخ داخل خلاياك، أو التأثر بالإشعاعات وغيرها من عوامل خارجية.
في الحقيقة، وبدون الاكتشاف الذي حصد نوبل هذا العام، فإن الأخطاء الكيميائية التي تحدث فعلًا كانت كفيلة بإنهاء أية فرصة لبقائك على قيد الحياة للحظة واحدة، بل وربما لتحوّلك من نطفة صغيرة لجنين في بطن أمك من الأساس، فالحمض النووي كما يتضح يخضع لعملية صيانة دقيقة على مدار الساعة لتبقى كافة النسخ متطابقة مع الأصل، وتستمر الحياة على الأرض في كافة الكائنات الحية التي نعرفها، وهي عملية صيانة تحتوي على آليات عدة اكتشف ثلاثًا منها كل من توماس ليندال وبول مودريتش وعزيز سنجر.
الآلية الأولى اكتشفها ليندال، وهي معروفة باسم الصيانة باستئصال القواعد Base Excision Repair، وهي تصون الحمض النووي حين تتعرض إحدى قواعد الحمض النووي، وهي الجزيئات الأربع الشهيرة المكونة له من سايتوزين، جوانين، أدينين، وثيامين، للتلف، وبالتالي تصبح عُرضة لإتلاف تلك النسخة بالكامل وكأنها خطأ مطبعي في الشفرة الجينية، والصيانة تتم ببساطة عن طريق إنزيم “جلايكوسايليز الحمض النووي” الذي يتدخل و”يستأصل” تلك القاعدة التالفة، لتحل محلها قاعدة سليمة.
الآلية الثانية اكتشفها سنجر، وهي معروفة باسم الصيانة باستئصال النيوكليوتيد Nucleotide Excision Repair، والتي تصون الحمض النووي باستئصال جزء كامل منه لا قاعدة واحدة فقط، وذلك عندما يتعرض لأشعة فوق البنفسجية تتلفه، وهو استئصال يتم عن طريق إنزيم “فوتولييز” في الضوء، في حين يتم عن طريق إنزيمات أخرى في الظلام أمضى معها سنجر سنوات في معمل جامعة ييل، ليثبت أنها هي أيضًا تقوم باستئصال جزء طويل من حوالي 12-13 نيوكليوتيد بما فيها الجزء التالف، لتحمي الحمض النووي من التحوّر بسهولة تحت أثر الأشعة، والتي تسبب السرطان.
الآلية الثالثة، والتي اكتشفها مودريتش، هي تصحيح عدم التطابق Mismatch Repair، حيث كشفت بحوثه أن مجموعة من الجزيئات تُعرَف باسم “الميثيل”Methyl (وهي مجموعة تلتصق بالنسخة الأصلية من الحمض النووي كأنها لافتة)، تقوم بتعريف الإنزيمات المتخصصة في تصحيح الحمض النووي على النسخة الأصلية من تلك التي يجري نسخها، لكليلا يقوم إنزيم التصحيح باستئصال جزء من الأصل عن طريق الخطأ، إذ تتعرف إنزيمات التصحيح على النسخة التالفة ببساطة نتيجة عدم وجود “لافتة” الميثيل عليها على عكس النسخة الأصلية.
الأدب: حين يصبح الواقع خياليًا، تصبح الصحافة أدبًا
سفيتلانا أليكسِفيتش: صحافية من بيلاروسيا (روسيا البيضاء)
سفيتلانا أليكسِفيتش، المولودة عام 1948 لأب بيلاروسي وأم أوكرانية، هي الحائزة على نوبل في الأدب لهذا العام، وهي على عكس كل من سبقوها للجائزة تشتغل أساسًا بالصحافة التي درستها بالجامعة، ولكن صحافتها ليست أي صحافة، فهي لا تنقل الواقع في تقارير رتيبة محايدة تبدو وكأنها صادرة عن شخص ملتزم بحدود وظيفته في مكتب بمقر صحيفته، بل تكتب ما تراه وتعيشه مع غيرها على الأرض منقولًا بصوتها ورؤيتها وحسها الأدبي، لتخرج لنا أدبًا من رحم الواقع.
كُتب سفيتلانا إذن ليست روايات كتبتها من على قمم الجبال أو من شرفة منزلها أو حتى من خلف قبضان السجون، ولكنها حكايات منسوجة من آلاف المقابلات التي أجرتها مع أناس حقيقيين مروا بأحداث شتى، مثل كارثة مفاعل تشيرنوبل، حرب السوفييت في أفغانستان، والحياة تحت حُكم السوفييت في شرق أوروبا بشكل عام، وهي منسوجة بطريقة صحافية فريدة وأدبية فذة جعلت منها صحافية وأديبة في نفس الوقت، وخلقت جسرًا بين المهنتين لربما يصعب من بعدها اعتبارهما مجالين منفصلين.
لماذا انكبت سفيتلانا على الواقع إذن ولم تترك العنان لخيالها لكي تستهلك كافة طاقاتها الأدبية؟ لأنها على حد قولها في القرن العشرين، فلو كانت في القرن التاسع عشر لأرادت أن تصبح روائية بالفعل، ولكنها شعرت في هذا الزمن أن الخيال ليس مناسبًا، “أود أن أتذكر الروائي الروسي العظيم أنطون تشيخوف ومسرحيته الشهيرة “الأخوات الثلاث”، والتي وصفت إحدى أبطالها الحياة البائسة التي تعيشها، وتيمنت بجمال وسلامة المستقبل بعد مائة عام، ولكن ماذا حدث بعد مائة عام؟ عصر جديد في تاريخنا ملئ بمآسي لم نكن يومًا نستطيع أن نتخيلها أصلًا”.
قد تكون تلك الكلمات كافية لشرح أسباب تكريس سفيتلانا لموهبتها الأدبية في نقل الواقع، فالواقع الذي نعيشه منذ بدء القرن العشرين هو واقع خيالي في الحقيقة من منظور القرن التاسع عشر، ويستحق أن يُكتب عنه بشكل يتجاوز التوثيق التاريخي التقليدي المعتاد، وهي مدرسة أدبية وصحافية فريدة استحقت نوبل في الأدب، والتي تذهب هذا العام لسفيتلانا القادمة من شرق أوروبا تقديرًا لتركيزها على الواقع، بعد أن ذهبت العام الماضي للفرنسي باتريك موديانو المعلق قلبه بالنوستالجيا والتاريخ.
السلام: رباعية ما بعد الثورة التونسية
اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس
قررت لجنة نوبل النرويجية منح جائزتها للسلام هذا العام لرباعية الحوار الوطني التونسية، وذلك عن دورها المحوري في بناء ديمقراطية تعددية في تونس عقب الثورة عام 2011، والتي لولاها لربما تطورات أحداث صيف 2013 بشكل يُنهي أي آمال في تدشين ديمقراطية بتونس، فقد تشكلت الرباعية آنذاك على خلفية مجموعة من الاغتيالات والاضطرابات الاجتماعية، لتقدم بديلًا سياسيًا أنقذ البلاد من الانزلاق للفوضى، وأتاح لتونس في وقت قصير أن تؤسس نظامًا دستوريًا.
تتشكل الرباعية من أربع منظمات مجتمع مدني رئيسية، هي الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والحرف والصناعات اليدوية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ونقابة المحامين التونسيين، ممثلة بذلك شرائح مختلفة من المجتمع التونسي، وبالنظر لقوة المجتمع المدني في تونس، فإن الرباعية تمكنت من دعم مجلس نواب الشعب وضمان استمرار المسار الدستوري، على العكس من دول عربية أخرى وصلت لها ثورات الربيع العربي ولكن مسيرتها الديمقراطية والدستورية توقفت لأسباب مختلفة، أبرزها كما نعرف ضعف المجتمع المدني.
نتيجة الجهود التي قامت بها الرباعية، قام توافق سياسي بين القوى السياسية المختلفة، وحوار وطني أتاح تأسيس قواعد النظام الجديد الدستوري والديمقراطي، وكبح موجة العنف التي اشتعلت في 2013، وأثبت أن الحركات السياسية الإسلامية والعلمانية يمكن أن تعمل سويًا كما يشير البيان الرسمي المنشور على موقع جوائز نوبل، ليضرب مثالًا على التعاون والحوار في منطقة تعج بالصراعات بين قوى مشابهة، وعلى أهمية المجتمع المدني في التحول الديمقراطي وضمان العملية الانتخابية.
كعادتها، كانت جائزة السلام هي الأكثر إثارة للجدل نتيجة ارتباطها أكثر من غيرها بعالم السياسة، فقد وجه لها البعض انتقادات حادة بالنظر لما آلت له الأوضاع في تونس حاليًا من تنامي نفوذ بعض أقطاب النظام القديم، غير أن لجنة نوبل النرويجية كما نعرف تهدي جائزتها لجهد نجح في وقف العنف بمنطقة أو بلد معيّن وضمان مسار سلمي، وليس بالضرورة لنجاح ثورة من عدمه، لا سيما وأن أقطاب النظام القديم، على عكس الكثير من بلدان الربيع العربي، أُجبِرت نتيجة تلك العملية السياسية على العمل وفق قواعد النظام، بشكل تصبح معه عودتها للسلطة متعلقة بالديمقراطية ومرهونة بالصندوق، لا بالالتفاف على الثورة أو مواجهتها أو الانقلاب على الدستورية كما يجري في سوريا ومصر بشكل دائم.
الاقتصاد: فهم الاستهلاك على مستوى الأفراد
أنغوس ديتون: بريطاني يعمل بجامعة برينستون بولاية نيوجيرسي.
صنع السياسات الاقتصادية التي تعزز الرفاهة وتحد من الفقر مسألة معقدة، وهي تحتاج بشكل كبير لفهم خيارات الاستهلاك على مستوى الأفراد، وبالتالي الإجابة على الأسئلة الآتية؛ كيف يوزع المستهلك أمواله بين السلع المختلفة؟ وما هي نسبة ما ينفقه المجتمع مقابل ما يقوم بالاحتفاظ به؟ وما هي أفضل طريقة لقياس وتحليل الرفاهة والفقر أصلًا؟ يقدم لنا أنغوس ديتون ببحوثه على مدار مساره المهني إجابات فريدة غيرت من ملامح العلوم الاقتصادية بأسرها.
لنأتي للسؤال الأول، والضروري لتفسير أنماط الاستهلاك والتنبؤ بها مستقبلًا وتقييم جدوى السياسات الاقتصادية، كتغيير الضرائب، على رفاهة المجموعات المختلفة في المجتمع، فقبل حوالي 35 عامًا، قام ديتون بتطوير نموذج “الطلب شبه المثالي “The Almost Ideal Demand System (AIDS)، وهي طريقة مرنة لمعرفة ارتباط الطلب على كل سلعة بسعر كافة السلع في السوق وبرواتب المستهلكين منفردين، ويستخدمها معظم المحللين وصناع السياسات الاقتصادية حول العالم اليوم لفهم أنماط الاستهلاك في الأسواق المختلفة.
بعد فهم أنماط الاستهلاك يأتي السؤال الثاني، والذي يفسر لنا العلاقة بين الدخل والاستهلاك، وهو سؤال قدم له ديتون إجابة في مطلع التسعينات، حين أثبت بأن نظريات الاستهلاك السائدة آنذاك ليست كافية لفهم تلك العلاقة على حقيقتها كما هي على الأرض، حيث كانت التحليلات تستخدم آنذاك فكرة الدخل الكلي لشريحة معينة، في حين قام ديتون في دراساته بدراسة راتب كل فرد وعلاقته بنمط استهلاكه منفردًا، لا سيما وأن رواتب الأفراد على أرض الواقع تتغير بشكل مختلف تمامًا عن “الدخل الكلي”، وهي دراسات أثبتت أهمية تحليل البيانات الفردية لفهم الأنماط الأوسع، ورسخت استخدامها في العلوم الاقتصادية.
أخيرًا، السؤال الثالث، والذي يعالجه ديتون في بحوثه الأخيرة، ويكشف فيه أن التحليل الفردي لكل منزل أو أسرة على حدة يمكن أن يكشف لنا عن الأنماط الكامنة في عملية التنمية الاقتصادية، كما يكشف أيضًا عن عوامل فردية أخرى لم تكن على بال الاقتصاديين، مثل علاقة الدخل بالسعرات الحرارية التي يتم تناولها، ومدى التفرقة بين الذكور والإناث داخل الأسرة الواحدة، وهي مرة أخرى واحدة من تجليات التحليل باستخدام الراتب الفردي والمنزل أو الأسرة كوحدة تحليلية، بدلًا من الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تختزل الأمور بشكل أكبر، ليكون ديتون أحد رواد تحويل الاقتصاد من علم نظري يقوم على أرقام تقريبية عن مجتمع ما، لعلم تطبيقي يقوم على البيانات المفصلة والفردية.