صرّح مؤخرًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن موسكو ربما تخاطر بفقدان صداقة أنقرة، وذلك بعد التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية، واختراق الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي عدة مرات، فما الذي قد يحدد مدى جدية تلك التصريحات؟ وما هي الاعتبارات التي قد تحكم العلاقات بين البلدين بعيدًا عن توترات السياسة المتعاقبة؟
بدايةً، فإن كون إيران الحليف الأول لروسيا في المنطقة، مع اعتماد تركيا بشكل أساسي على الغاز الإيراني كمصدر لاستهلاك الطاقة التركي، والذي يجعل إيران الشريك الاقتصادي الخامس لتركيا، يجعلنا نتردد في تصديق أن ثمّة تطور دراماتيكي قد يطرأ على العلاقات التركية – الروسية؛ فالعلاقات بين الجانبين يحكمها روابط اقتصادية وتجارية أكثر أهمية للطرفين من أن يتم تجاوزها لأية اعتبارات أخرى.
الصراع بين القوتين قديم قدم الاحتكاك بين القبائل التركية والسلافية، فقد كان البحر الأسود وجبال القوقاز حدودًا طبيعية فاصلة بين الشعبين، إلى أن أسس الأتراك الدولة العثمانية في الأناضول عام 1299، وتناظرها دوقية موسكو الكبرى عام 1340، ومع توسع الطرفين التقى الطرفان في صراعات لم تنته حتى اليوم، وإن أخذت أشكالاً مختلفة على مدار التاريخ، فمنذ عهد القياصرة والعثمانيين، بعد محاولات رورسيا القيصرية العديدة الحصول على موضع قدم في المياه الدافئة، من أجل أغراض تجارية واضحة، نجحت روسيا بعد الحرب العثمانية – الروسية 1786 – 1774 في إخضاع شبه جزيرة القرم وأجزاء من جنوبي أوكرانيا للسيطرة الروسية، بعدها أعلنت إمارة القرم الاستقلال لفترة وجيزة ثم عادت لتخضع للسيادة الروسية عام 1783، وقد عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ضمها مرة أخرى في مارس العام الماضي إثر اندلاع الثورة ضد الرئيس الأوكراني المقرب من موسكو، مما أثار حفيظة الأتراك لارتباطهم بعلاقات تاريخية مع مسلمي القرم هناك، ولتهديد السيطرة الروسية على القرم للمصالح التركية الإقليمية في منطقة البحر الأسود وعلاقاتها التجارية مع دول شرق أوروبا.
إلا أن العلاقات الاقتصادية بين العدوين اللدودين تجعل من الضروري لكلا الطرفين الحفاظ عليها والعمل على رأب أي صدع قد يطرأ؛ ولذا ترددت تركيا في معاداة التدخل الروسي في أوكرانيا بشكل حازم، حفاظًا على الروابط الاقتصادية بين البلدين، مع تنبّه الأتراك إلى التردد الأوروبي الملحوظ في تفعيل العقوبات الاقتصادية على روسيا، لارتباط بعض القادة الأوربيين بمصالح مباشرة واستثمارت مع الدب الروسي.
وعلى جانب آخر، تقتضي المصالح الأوروبية استمرار العلاقات الودية بين الطرفين الروسي والتركي من أجل إتمام العمل على مشروع خطوط نقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا (مشروع السيل التركي، بطول 910 كم،250 كم منها داخل الأراضي التركية، وبقدرة 63 مليار متر مكعب من الغاز عبر البحر الأسود، والذي بدأ العمل فيه في شهر مايو الماضي)، وذلك من أجل إنشاء مجمع للغاز في اليونان يختزن 75% من تلك الكمية، ومنه إلى المستهلكين في جنوبي القارة، وذلك بعد توتر الأوضاع الأمنية في أوكرانيا؛ في حين يبقى 25% للاستهلاك التركي، وكانت الأنباء قد تضاربت مؤخرًا عن توقف العمل في المشروع إثر التدخل الروسي في سورية، إلا أن مسؤولين روسَ وأتراك قد أكدوا استمرار العمل.
أما فيما يتعلق بمضيقَي البوسفور والدردنيل، فإن معاهدة مونتروس 1936 الناظمة لحركة السفن الحربية والتجارية عبرهما تنص على تقييد حجم وزن السفن التابعة لقوى من خارج منطقة البحر الأسود التي يمكنها عبور المضائق إلى داخل البحر الأسود، مما يؤدي عمليًا إلى استحالة مرور حاملات الطائرات، مما يجعل من الصعب على الأوربيين – من غير وساطة تركيا كعضو في حلف الأطلسي – والأمريكيين التأثير في موازين القوى في تلك المنطقة، إلا أن المعاهدة تستثني السفن التجارية التي تتمتع بحرية تامة في العبور والملاحة عبر المضائق، من أجل هذا وجب أن تبقى العلاقات بين الطرفين ودية بشكل أو بآخر من أجل عدم دفع تركيا إلى العودة بشكل كامل إلى المعسكر الغربي مما يؤثر سلبًا على حجم تعاونها الاقتصادي مع الجانب الروسي.
وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو 25 مليار دولار عام 2010، بعد تراجع ملحوظ في العام 2009 حين كان قد وصل حجم ذلك التبادل ذروته عام 2008 بمقدار 33 مليار دولار؛ إلا أن زيارة الرئيس الروسي وقتئذ، ديمتري مدفيديف، وتوقيع الجانبين حوالي 17 اتفاقية في مجالات متعددة، من الطاقة إلى الزراعة والتجارة أدت إلى إعادة إنعاش العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وفي آخر الإحصائيات الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، فإن تركيا تعد الشريك التجاري الخامس للاتحاد الروسي في 2014 حيث تستقبل حوالي 5% من الصادرات الروسية، والتي – في نفس الوقت – تمثل أكثر من 10% من الواردت التركية.
وعلى صعيد آخر، فإن بناء تركيا لبعض المفاعلات الكهروذرية، بالتعاون مع روسيا، يدفع البلدين لتجاوز الأزمة الراهنة من أجل الحفاظ على مصالح الطرفين فيما يتعلق بهذا الجانب، فقد وقع الجانبان اتفاقًا لإنشاء محطة للطاقة الكهروذرية قرب مدينة مرسين، جنوبي تركيا، على ساحل البحر المتوسط، بمشاركة شركتَي “روس أتوم ستروي إكسبورت” atomstroyexport و”إنتر راو يي إس” الروسيّتَين وشركة park teknik التركية، وقد صادق مجلس الدوما على هذه الاتفاقية في 19 نوفمبر 2010 متضمنةً بناء 4 مفاعلات بطاقة استيعابية 4800 ميغاوات، بتكلفة قدرها 20 مليار دولار.
أما في المجال السياحي، تعتزم روسيا إنشاء منطقة من المنتجعات السياحية في القوقاز الشمالي (حيث الشيشان وداغستان)، ومن بين المستثمرين الرئيسيين في هذا المجال “سْبربنك” والذي كان قد استحوذ مؤخرًا على أحد أهم البنوك التركية “دينز بنك” في صفقة بلغت 3.6 مليار دولار عام 2012، ومن المتوقع أن تجذب هذه المنتجعات حوالي 10 ملايين سائح سنويًا، مما يؤدي إلى انتعاش القطاع السياحي الروسي وجذب المستثمرين الأتراك وغيرهم، وخاصة عند الأخذ في الاعتبار العلاقات الثقافية والدينية التاريخية بين شعوب القوقاز والأتراك منذ عهد الدولة العثمانية ورحلات القبائل التركية في المنطقة.