بقلم حسن كمال ، وائل المصري
يتفق معظم الخبراء الإستراتيجيين بأن عقد السبعينات من القرن الماضي كان عقد الاتحاد السوفيتي بلا منازع، فمنذ أزمة الصواريخ الكوبية والسوفييت في حالة الدفاع، حتى أن المقولة السياسية الرائجة آنذاك كانت “أن مع أمريكا يكسب، ومن مع الاتحاد يخسر”، غير أن كفة الصراع باتت تميل بشكل كبير منذ عقد السبعينات للسوفييت الذين ينتقلون – ولأول مرة – من حالة الدفاع إلى الهجوم، الأمر الذي حذا بوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر بأن يصف تلك الحقبة بأنها “مستهل اختلاط المشهد الدولي”.
ففي عقد السبعينات لحقت بأمريكا أول هزيمة عسكرية وسياسية غير مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في فيتنام، وقد توالت النقاط التي أحرزها السوفييت ضد الولايات المتحدة حتى خُتمت بدخول 100 ألف جندي سوفيتي إلى أفغانستان، وهو الاحتلال الذي جاء لتثبيت النفوذ الأحمر في أسيا والاقتراب من منابع النفط على الخليج العربي.
بيد أن ما كان يظهر للجميع أنه ذروة المجد السوفيتي أثبت الواقع أنه العكس، حيث بدأ تاريخ أفول نجم الاتحاد السوفيتي عند جل الخبراء منذ احتلاله لأفغانستان، ذلك الغزو الذي سيدُق المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفيتية ويسرع في انهيارها المفاجئ، وهو الأمر الذي يخالف الصورة التي كان يعطيها زخم التقدم العسكري للسوفييت وحلفائهم في بقاع مختلفة من العالم وقتئذ، إذ يقول هنري كيسنجر عن الانحطاط الذي بدأ يصيب الاتحاد السوفيتي: “ففي لحظة واحدة بمطلع الثمانينات، بدا أن الشيوعية ستكتسح كل ما تراه أمامها، ولكن ما إن حلت لحظة بعدها – والتاريخ يحسب بالوقت – حتى أخذت الشيوعية تهدم نفسها بنفسها، ففي عقد واحد تلاشت التوابع في أوروبا الشرقية وتقطعت أوصال الإمبراطورية السوفيتية متخلية عن جميع المكتسبات الروسية تقريبًا منذ عهد بطرس الأكبر، فما من قوة سبق لها أن تقطعت بهذا الحجم وبهذه السرعة دونما اندحارها في أتون حرب ما”، ليُهزم الاتحاد السوفيتي ويتفكك بعدها، حتى وصل الحال بأن يفعل شعب لا يتجاوز تعداده المليون نسمة الأفاعيل بالسوفييت ومن ثم بروسيا لاحقًا منتزعًا استقلاله في البداية ثم دخوله في حالة صراع مسلح مكلفة مع روسيا استنزفت الدولة بشريًا واقتصاديًا بشكل كبير جدًا.
بعد الانهيار السوفيتي، وتقوقعه لداخل روسيا الاتحادية وحالة الانحطاط التي عاشتها روسيا في عهد يلتسن خصوصًا، والذي يعتبر الرئيس الوحيد في التاريخ الذي تصل شعبيته وفق أفضل التقديرات إلى 2% فقط، كانت هناك محاولة جديدة لإحياء الدور الروسي على يد فلاديمير بوتين الذي أصبح رئيسًا منذ العام 2000 ولا زال يحكم روسيا حتى الآن باستثناء فترة رئاسة صديقه ديمتري مدفيدف ما بين العامين 2008 – 2012 والتي كان هو فيها رئيسًا للوزراء.
إذ تمكن بوتين بالفعل من تحقيق إنجازات اقتصادية وسياسية داخليًا وخارجيًا، حيث استطاع تثبيت الهدوء والاستقرار في الشيشان التي كانت تعد من أخطر الملفات التي أرّقت الروس وأرهقتهم، فيما خاض حربًا منتصرة تمامًا ضد جورجيا في فترة رئاسته للوزراء في العام 2008 وهي الحرب التي كانت رسالة إلى أوروبا تُظهر عدم تهاون روسيا مع أي تهديد لهيمنتها على قطاع الطاقة فضلاً عن وضعها حدًا لخطط “الناتو” الرامية إلى إنشاء قواعد الصواريخ ومحطات الرصد على الأراضي الجورجية، كذلك استطاع – أي بوتين – من خلال تحالفاته مع الصين وإيران أن يضمن حضورًا دوليًا فعّالًا، وهو التحالف الذي لا يخفي الساسة الأمريكيون مدى خشيتهم منه حتى وصفه صاحب كتاب “رقعة الشطرنج الكبرى” بأنه السيناريو الأكثر خطورة الذي يهدد سيادة أمريكا على أوروسيا وبالتالي تهديد موقعها كقوة عالمية، فهو تحالف لا توحده الأيدلوجيا إنما التذمر المشترك من أمريكا، فضلاً عن كل ذلك فقد تمكن بوتين وبمغامرة كبيرة من ضم شبه جزيرة القرم لورسيا مما يعطيه منفذًا بحريًا نحو العالم، وباختصار يمكننا القول إن عهد بوتين شهد إعادة الهيبة لروسيا داخليًا وخارجيًا، فضلاً عن ازدياد مساحة التأثير الدولي أيضًا، وأخيرًا وبالتدخل العسكري والعلني في سوريا فقد بدا أن روسيا قد وصلت لذروة تمددها، ومع الاندفاع العسكري والسياسي والمتزامن مع اعتبار الكنيسة الأرثوذكسية أن الحرب هناك حربًا مقدسة، هل يمكن القول إن التدخل الروسي في سوريا سيكون بداية مرحلة صاعدة لروسيا أم العكس كما كان الحال مع الغزو السوفيتي لأفغانستان؟
يرى جمال حمدان – أحد أشهر علماء الجغرافيا السياسية العرب – بأن الدعم السوفيتي لدول عدم الانحياز وخصوصًا الدول العربية كان لا يتم إلا بشروط سياسية أولًا ثم بمعدلات تتناسب طرديًا مع درجة حرارة الحرب الباردة، ثم – وهو الأهم – أنه كان يدعمه بأسلحة ومعدات تضمن له الهزيمة عادة أكثر مما تتضمن له النصر، وهذا الرأي الوجيه صائب جدًا لو نظرنا لمحددات الدعم السوفيتي التي تنص على بيع الأسلحة الدفاعية فقط للدول العربية – وخصوصًا التي لها عداء أو جوار مع إسرائيل – وضمان عدم التفوق العربي على إسرائيل، وهو الأمر الذي يذكّر بموقف السوفييت الأساسي من قيام “إسرائيل”.
فعلى الرغم من رفض الشيوعيين في العالم للصهيونية وتنديدهم بها إلا أن الاتحاد السوفيتي كان من الداعمين لتقسيم فلسطين ثم كان من أوائل المعترفين بدولة “إسرائيل” فور الإعلان عن قيامها لحسابات كانت تقوم على المصلحة الآنية لا المبادئ والشعارات التي لطالما نادى بها السوفييت، إذ كان الاعتقاد السائد لدى الساسة في الاتحاد السوفيتي أن إسرائيل من الممكن جدًا أن تكون أول دولة اشتراكية في المنطقة نظرًا لحجم المهاجرين من اليهود الروس إليها ثم البيئة الحرة التي كان يعمل بها اليساريون في ذلك الكيان الوليد، وهي حسابات سرعان ما أثبت الزمان خطأها لينتقل الروس من محاولات التحالف مع إسرائيل إلى التحالف مع خصومها في المنطقة، وعلى الرغم من تلك الخصومة التي كانت بادية مع إسرائيل إلا أن السوفييت كان لهم التأثير الأكبر على حلفائهم العرب في إقناعهم بالقبول بحق إسرائيل في الوجود ورفض الحديث عن إزالتها ككيان غريب محتل لأراضٍ عربية، وهو ما أشار إليه جمال عبد الناصر صراحة بُعيد نكسة 67 في خطاب ألقاه في القمة العربية المنعقدة في الخرطوم بعد شهرين فقط على هزيمة يونيو، إذ قال: “إن الموقف العالمي الآن يختلف تمامًا عما كان عليه عام 1956، ففي ذلك العام اتفقت أمريكا والاتحاد السوفيتي على الوقوف في وجه العدوان الثلاثي، أما الآن في عام 1967 فقد اتفقت أمريكا والاتحاد السوفيتي على حق إسرائيل في الوجود، كما اتفق الاثنان أيضًا على إنهاء حالة الحرب”.
هذه النظرة السوفيتية للمنطقة العربية ورثتها روسيا الاتحادية في عهد يلتسن ثم بوتين ولكن بشكل أكثر براغماتية ومصالحية، فعلى الرغم من معارضة روسيا لحصار العراق ومن ثم الغزو عام 2003 إلا أن التاريخ يذكّر بأن الاتحاد السوفيتي الذي يعد أهم حلفاء نظام صدام حسين كان من أوائل الذين أسلموا العراق لضربات التحالف الدولي في عاصفة الصحراء عام 1991 عندما قرروا إدانة الغزو العراقي للكويت، وهو الموقف الذي علق عليه وزير الخارجية الأمريكي السابق “جيمس بيكر” بالقول بـ “أنها المرة الأولى التي ينضم فيها الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة بفعالية ضد واحد من أوثق حلفائه!”، ورغم المعارضة الروسية لحصار العراق أثناء عاصفة الصحراء ثم احتلاله فيما بعد إلا أن روسيا لم تقم بأي خطوات عملية تضمن استقرار النظام العراقي ومنع سقوطه رغم بقاء العراق الحليف الأهم لروسيا في المنطقة – بلغت التبادلات الاقتصادية العراقية الروسية ما قيمته 7 مليار دولار -، بل كان الموقف الروسي مخترقًا للموقف العراقي ومفتتًا لمطالبه، فالروس هم من أقنع صدام حسين بضرورة إدخال المفتشين الدوليين إلى المنشآت الحساسة العراقية وحجتهم في ذلك كانت نزع الذريعة الأمريكية لاحتلال العراق، كما أن لهم دور كبير في إقناع العراقيين بتدمير مخزونهم من الصواريخ الإستراتيجية، بينما حال تحالف الروس مع النظام السوري لم يختلف كثيرًا، إذ إن الروس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كانوا قد رفضوا منح سوريا أية معونات عسكرية، وهو الأمر الذي أثر على البنية التسليحية للجيش السوري إذ اتجه حافظ الأسد حينها للاكتفاء بتحديث منظومة بلاده من الصواريخ الإستراتيجية فقط، ورغم ذلك فإن تزويد الروس للسوريين بالصواريخ الإستراتيجية كان محكومًا بالتخوف الإسرائيلي من النظام السوري، وهو ما يجعل الرفض الروسي بتزويد سوريا بمنظومة الدفاع الجوي المتطور “أس 300” مفهومًا، وذلك على الرغم من العلاقات الوثيقة بين الطرفين سياسيًا واقتصاديًا، ثم كان العام 2013 الذي أقنع فيه الروس النظام السوري بنزع مخالبه الإستراتيجية “الأسلحة الكيميائية” بنفس الحجة التي أقنعوا بها العراقيين سابقًا.
أما بخصوص العلاقات الروسية – الإسرائيلية فقد وطد الروس علاقاتهم السياسية والعسكرية مع إسرائيل، لقد كان الروس يتحركون وفق إرث الاتحاد السوفيتي في المنطقة مع بعض التعديلات البراغماتية التي أدت لمزيد من التعاون السياسي والعسكري مع إسرائيل في الشرق الأوسط وأمريكا في أسيا، إضافة إلى مزيد من الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي للأنظمة الاستبدادية بعد ثورات الربيع العربي، ومن خلال هذه الدلائل يمكننا تفهم طبيعة التدخل الروسي في سوريا ونرجعه للتالي:
أولًا: طبيعة العقيدة الأمنية والإستراتيجية الروسية الجديدة
يرى البعض أن الروس ينظرون لسوريا على أنها هي مفتاح المنطقة وليس العراق – كما فعل الأمريكيون -، وهذا القول إن لم يكن دقيقًا قبل سقوط العراق فقد أصبح كذلك بعد سقوطه، إذ برز الدور المحوري لسوريا في معظم الأحداث التي شهدتها المنطقة – كان للتغاضي السوري عن تسلل المقاتلين العرب للعراق دورًا كبيرًا جدًا في المقاومة العراقية للجيش الأمريكي- فضلًا عن دورها المهم في التواصل مع فواعل رئيسية غير دولية في المنطقة كحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين وبعض أذرع المقاومة في العراق، وتوسطها الجغرافي بين تركيا والعراق وإسرائيل والأردن، فضلًا عن موقعها الجغرافي المهم على البحر المتوسط، أما من ناحية العقيدة الأمنية الجديدة، فإن روسيا ترفض استخدام القوة أو التهديد باستخدامها من قبل أمريكا إلا عندما يقرر مجلس الأمن ذلك وبموافقة كافة أعضاء المجتمع الدولي وهذا ما بدا واضحًا من خلال الكلمة التي ألقاها بوتين في قمة “معاهدة الأمن الجماعي” لسنة 2013 “إن أي تدخل عسكري في سوريا سيكون بمثابة عدوان ينتهك القانون الدولي، ويُزعزع الوضع في المنطقة”.
ثانيًا: القلعة الروسية الأخيرة في المنطقة
ترى روسيا أن سوريا هي مدخلها الأخير في المنطقة العربية الذي يمكنها من التأثير على مجمل الأحداث الساخنة فيها – وهي بلا شك من أهم المناطق الساخنة في العالم – وبالتالي لا يمكن لروسيا تحمل خسارة سوريا بعدما خسرت العراق وليبيا، وكان للموقف العربي والغربي من ليبيا وتجاوز الدور الروسي فيه وعدم مراعاة مصالحها هناك تأثير بالغ على الموقف الروسي من سوريا، فقد خرجت روسيا من ليبيا بخفي حنين وفقدت كل امتيازاتها السياسية والاقتصادية هناك، وبالتالي فلا يمكن لها أن تكرر نفس السيناريو في سوريا تحت أي شكل من الأشكال، كذلك يرى بوتين بأن هزيمته في سوريا ستؤثر عليه داخليًا وتظهره بمظهر الضعيف والمهزوم أمام شعبه؛ مما يؤهل المعارضة الروسية لاستغلال هذه الهزيمة لإنهاء أو على الأقل إضعاف دوره السياسي، فكما هو معروف فإن أحد أسباب نجاح بوتين السياسي هو شعور الشعب بوجود رجل قوي قادر على مواجهة أمريكا أو الوقوف بوجهها للحفاظ على المصالح الروسية.
ثالثًًا: خطورة الموقع السوري جغرافيًا وإستراتيجيًا
عقب الأزمة الجورجية اعتبر الروس أن التوتر في تلك المنطقة سيؤدي لزيادة التوتر في الشرق الأوسط – وهم يقصدون ما قد يفعلونه في سوريا حينها- في نفس الوقت الذي هددوا فيه بنشر صواريخ إسكندر في سوريا في حالة استمر حلف شمال الأطلسي في نشر درعه الصاروخية في أوروبا الشرقية، وتعتبر سوريا المكان الوحيد الآمن لروسيا في الشرق الأوسط، ففيها القاعدة البحرية الوحيدة لروسيا في المتوسط “قاعدة طرطوس”، هذا الوجود الروسي بمقدوره الإشراف على تركيا من ناحية وعلى إسرائيل من ناحية أخرى جغرافيًا، فضلًا عن وجوده في أحد أهم البحار العالمية تجاريًا وسياسيًا، وبالتالي زيادة التأثير السياسي والدولي عالميًا، فضلًا عن كون النظام السوري كان مشتبكًا في قضايا ساخنة كالقضية الفلسطينية واللبنانية والعراقية والإيرانية مما يمكن الروس من زيادة التأثير في هذه الملفات جميعها، علمًا بأن حافظ الأسد وقع سنة 1980 معاهدة مع روسيا تنص على التشاور في حالة وجود أي تهديد للسلام في المنطقة.
رابعًا: العقدة الروسية من القطبية الأمريكية
من الواضح أن هناك عقدة روسية تتمثل في سعي روسيا الدؤوب للظهور بمظهر الند في كل شيء كما كان الحال في عهد الاتحاد السوفيتي، كذلك الانتقادات الحادة لروسيا من النظام العالمي الجديد الذي يتمثل بالأحادية القطبية الأمريكية، وقد عبر بوتين عن هذه الرؤية بشكل واضح في خطابه الانتخابي لسنة 2012 ” لا يجوز تحديد “قواعد اللعب” في الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهر، أو بمعزل عن روسيا ومصالحنا”، وهناك لمحة ذكية من الكاتب الأسترالي بوبو لو في كتابه “روسيا والفوضى الجديدة في العالم” مفادها أن بوتين يبالغ بأن روسيا دولة عظمى توازي بأهميتها أمريكا، وأن بوتين يتصرف وكأنه زعيم الاتحاد السوفيتي بكل ثقله العالمي لا رئيس روسيا التي فقدت الكثير من الامتيازات السوفيتية، ولذلك بقيت الخطوات الروسية محكومة بردات الأفعال أكثر من التخطيط الإستراتيجي المحكم، وبدا هذا واضحًا في ثورات الربيع العربي التي منيت بها روسيا بخسائر محققة في كل مكان وصل إليه نفوذ الربيع.
خامسًا: الخشية من امتداد نشاط الجماعات الإسلامية لروسيا ومحيطها
هناك تخوف روسي حقيقي من امتداد نشاط الجماعات الإسلامية لشمال القوقاز أولًا ثم التأثير على المسلمين الروس ثانيًا، فقد بلغ عدد القوقازيين المنخرطين في القتال الدائر في سوريا 2400 مقاتل، فضلًا عن مبايعة جماعة “فيلايات الشيشانية” – وهي إحدى الجماعات القتالية شمال القوقاز – لتنظيم الدولة الإسلامية يونيو2015، وقد نقل نبيه الأصفهاني عن أحد الباحثين الروس قوله “إن ما يجري في الشرق الأوسط لا بد وأن ينعكس علينا أو في دول جوارنا القريب كالشيشان وطاجيكسان وأفغانستان” هذه النظرة الروسية كانت شبيهة بالموقف من طالبان أفغانستان إذ كانت روسيا من أوائل المهاجمين للحركة والناعتين لها بالإرهاب تخوفًا من امتداد نشاط الجماعة إلى جمهوريات أسيا الوسطى وجنوب روسيا.
تداعيات الموقف الروسي
حتى الآن تبدو نتائج التدخل الروسي محدودة جدًا، إذ إنها تقتصر على الضربات الجوية والدعم اللوجستي أكثر من التدخل البري الفعال والمفيد، والقاعدة العسكرية المعروفة أن الضربات الجوية لا تحسم أي معركة وهذا بات واضحًا من خلال الحرب الدائرة ضد تنظيم الدولة في سوريا والعراق، وربما تكون هذه ملامح المرحلة الأولى من التدخل الروسي كما كان الحال مع التدخل الإيراني وميليشياته والتي ترتكز على الإسناد الجوي وحماية مناطق سيطرة النظام وخصوصًا الشريط الساحلي ومنع سقوطها بيد المعارضة، يتلوها مرحلة أخرى يُشكل التدخل البري عنصرًا رئيسيًا فيها، فالتدخل الروسي الحالي سيضع روسيا أمام خيارين، الأول رؤية إستراتيجية الإسناد الجوي تفشل بشكل ذريع والاكتفاء بصدى هذا الفشل، أو تعويضه من خلال تدخل بري سيكون مكلفًا جدًا على النظام الروسي الذي لا يتحمل خسارات طويلة بشريًا وماديًا، فلا أمريكا ستسمح بانتصار مدوٍ للروس – وان تغاضوا عن تدخلهم “التوريطي” – ولا الدول الإقليمية الفعالة في الثورة كتركيا وقطر والسعودية ستسمح بذلك أيضًا، ذلك أن رؤيتهم تقوم على أن أي تقدم للنظام وتطور في موقفه يعني انتصار إقليمي للمحور الإيراني وهو ما يعني اختراقًا للخطوط الحمراء التي تضعها هذه الدول حتى لو وصل الأمر لدعم المقاتلين السوريين بأسلحة حديثة مضادة للطائرات – والكل يذكر تأثير “الستينجر” الأمريكي في الجهاد الأفغاني ضد السوفييت -، وخلاصة الموقف أن التدخل الروسي يبلغ منتهاه في مقدرته على فرض واقع التقسيم على أطراف الأزمة – وهو التقسيم الذي يحتفظ بناء عليه النظام السوري بالمناطق الأكثر كثافة سكانية والأكثر إستراتيجية أي “سوريا المفيدة” كما عبر عنها بشار الأسد – وذلك أكثر من قدرته على تحريك النظام السوري لحسم ملف الثورة بالكامل، ولكن حتى فكرة التقسيم لا يمكن استمرارها ولا القبول بها سوريًا أو إقليميًا باستثناء إسرائيل.
ربما يظن بوتين بأن تدخله في روسيا سيكون ورقة ضغط جديدة في يده ليتجاوز ويفاوض ويتقدم فيما يتعلق بالملف الأوكراني، ولكنه ينسى أن طبيعة الحالة السورية معقدة ومستنزفة لكل الأطراف التي تدخلها، وأن فشله – سيجر فشلًا مشابها في أوكرانيا، فروسيا أثبتت ضعفًا اقتصاديًا وسياسيًا أمام المقاطعة الاقتصادية الغربية ضدها، ولا تمتلك أدنى مقومات التأثير الفعلي هناك وبدا هذا واضحًا من خلال طرد روسيا من مجموعة الدول الصناعية الكبرى التي انضمت لها روسيا 1998، فلا قوة روسيا تسمح لها بفرد عضلاتها أكثر من الموجود ولا الاقتصاد الروسي كذلك، وكما كان التدخل السوفيتي في أفغانستان هو ذروة المد السوفيتي لكنه حمل في طياته بداية أفوله للأبد، فإن التدخل الروسي – الذي ينظر له عالميًا بأنه ذروة المد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – قد تكون نتيجته مشابهة لنتيجة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.
خلاصة
قال الرئيس الأمريكي السابق ريجان: “لقد أعلن السوفييت (الروس) صراحة وعلنًا أن القاعدة الأخلاقية الوحيدة التي يعترفون بها هي تلك التي تساهم في دعم قضيتهم، مما يعني أنهم يمنحون أنفسهم الحق في عدم التورع عن ارتكاب أي جريمة والكذب والخداع في سبيل تحقيق غايتهم، وعلى المرء أن يضع ذلك في اعتباره لدى التعامل معهم، حتى وإن اتخذ هذا التعامل صورة الانفراج”.