ذكر الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون بأن “الجماهير غير ميالة كثيرًا للتأمل وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدًا للانخراط في الممارسة والعمل والتنظيم، مما يجعل قوتها ضخمة جدًا”، فهي بالتالي مجنونة بطبيعتها، وبكل بساطة يمكنها من خلال القوة التي اكتسبتها من هذه العقلية أن تكون حالة متفردة لا حدود لها، والحديث عن الجماهير الفلسطينية هنا يجسد المحور اللاواعي للفرد الفلسطيني وانخراطه مع الجماهير الواعية وتشكل الشعور العارم بالقوة الجماهيرية المكتسبة والهيمنة الغرائزية للفرد الواحد.
إن ما يجعل الحالة الجماهيرية الفلسطينية هي قضية قابلة للتشريح والدراسة المتعمقة هو التطور العجيب والمتفرد في التكتيك الذي تستخدمه الجماهير في التعبير عن نفسها، وانتقال هذه الجماهير من مرحلة مقاومة محتلاً إنجليزيًا إلى مستعمر صهيوني وبشكل مباشر دون المرور بمنظومات تُعيد تشكيل وصياغة الفكر الجماهيري المقاوم وتضع خطط مستقبلية له، أي عدم المرور بكيان دولي يعيد ترتيب الجماهير – ولربما هذا هو السبب وراء كون الجماهير الفلسطينية تتمتع بكل هذه الصفات، وتكتسب كل هذه الخيرات – مما ينشأ لدينا حالة نادرة تشكلت بفعل كون الجماهير هي المحرك الأساسي للفرد الواحد دون أي تدخل منهجي من قِبل أي منظومات أخرى تصبغ الفكر المجتمعي وتسيره، وبالتالي يكون دماغ الجمهور هو العضو الرئيسي للكيان الفردي، الشيء الذي ينتج عنه تسيير كامل الأفراد على خط واحد مبني على العاطفة الواحدة والفكرة النقية.
المقاومة الشعبية الفلسطينية وباعتبارها هي الحراك الجماهيري للشعب الفلسطيني تشكل الأساس الذي أنشأ هذه الحالة الفريدة والعجيبة، فمثلًا انتقل النضال الشعبي من كتائب صغيرة تشكل نواه لثورة بالبنادق التقليدية أيام الاحتلال الإنجليزي إلى حراك داخلي مسلح ويتمتع بميزة المحاور والفصائل المدعومة من الخارج لخلق نضال ذا صفات متكافئة مع العدو الصهيويني، ومن ثم خلق مفهوم المقاوم والفدائي الفلسطيني والذي يشكل خط دفاع استشهادي في الطليعة القتالية، وبناء عمليات نوعية ذات مستوى تقني عالٍ جدًا، وانتهاءً بجمهور جلاد من الطراز العريق يقوم باستحداث عمليات فردية غير منظمة من قِبل الفصائل مثل الدهس والطعن واستخدام الألعاب النارية، وهذه هي الحالة الأخيرة التي قد تم استحداثها في ظل تغيب القيادة اللازمة لتنظيم الهيجان الشعبي الفلسطيني ومحاولة زعزعة واستئصال مفهوم الفدائي وتجريده من السلاح وخلق حالة من الاستغفال الجماهيري وذبح الحراك الجماهيري للشعب مقابل تمرير المصالح التي تسببت في الأصل بكل ذلك.
في النهاية أثبتت الجماهير الفلسطينية أنها لا تشيخ، ولا يمكن أيضًا تجريدها من السلاح، وأن كل محاولة لنزع مفهوم الفدائي هي محاولة مقيتة وفاشلة ولا يمكن أن تنفع مع هذه الجماهير الواعية التي قامت باختزال كل الخبرات السابقة وتكريسها في الدفاع عن الأرض والحفاظ على المقدسات وإظهار كل هذا التلاحم بين الفرد والمجتمع، وطرح فكر فلسفي عميق جدًا بين الفرد والجمهور، من خلال جعل المجتمع عبارة عن فرد كبير لا يهتم بالفرد داخله، وكيفية انتقال الخصائص الواعية للجماهير إلى الخصائص اللاواعية للأفراد وإنتاج كيان واحد استثنائي وحالة غير مسبوقة تستحق بالفعل أن تدرس في المعاهد والجامعات.
الجماهير الفلسطينية هي حالة يجب أن تدرس