اليوم أصبح عمري 25 عامًا

في ذلك الصيف الجميل من العام 1990 الذي كنا نقضيه مع الأخوة الأحباب بين المسجد والملعب والسهرات المتنوعة، وأنا الذي ترعرت مع إخوان لم يعرفوا طريقًا للهو، فقد منّ الله عليّ برفقة مباركة من أبناء المساجد، لم أعرف عظمة هذه الرفقة إلا الآن.
تلك الحقبة التي عشناها في لبنان كانت متسارعة، من الحرب الأهلية إلى الاجتياح الإسرائيلي واحتلال أول عاصمة عربية، فمرحلة ما يسمى بحروب التحرير والتطهير و… إلى مرحلة اتفاق الطائف ودخول لبنان ومنطقتنا إلى سلم أهليّ، فُرض علينا كما فُرضت الحرب الأهلية علينا في الخمس عشرة سنة التي سبقتها.
وسام ذلك الشاب اليافع ابن الـ 17 عامًا، مكتمل النضوج، وجد نفسه غارقًا بصحبة شباب كوّنوا له بعضًا من شخصيته، حتى أصبحوا مثله الأعلى؛ شباب مسلم مثقف ملتزم لا يعرف إلا المسجد طريقًا للحياة، ومن المسجد كان المنطلق إلى جميع مشاريع حياتنا، إلى حلقات العلم، إلى ملاعب كرة القدم وكرة السلة، إلى المدرسة، إلى الرحلات.
هذه هي البيئة التي انطلقنا منها، كانت السهرات تجمعنا يوميًا في منزل أحد الأخوة، نتسامر، نتفكر، نمزح، ونلعب، خاصة أن أدوات اللهو واللعب في ذلك الزمان كانت محدودة، والفضائيات لم تكن موجودة، والمحطات التلفزيونية شبه مرفوضة إلا لنشرة أخبار أو حضور المسلسل المحلي “أبو سليم الطبل وفرقته”.
في إحدى السهرات، وجدت بعض الأخوة يتهامزون بطريقة مريبة أدخلت الشك في نفسي، أحسست بمخطط جديد وبعملية غير معلنة يجري الإعداد لها، والكل يعلم أن تلك الفترة من الزمن كانت الأوضاع الأمنية خطرة والعمل يتم بسرّية كبيرة، وحيث إنه كان من ضرورات تلك المرحلة شعار “استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان”.
أعود للأخوة الذين يتهامزون، لماذا كل هذا الكتمان؟ ما هو المشروع الذي يخططون له دون علمي؟ أذاهبون إلى معسكر من معسكرات التدريب على الجهاد دون أن يخبروني وأنا الأصغر سنًا بينهم؟ لست أدري.
ظلت الأفكار تتقاذفني وتلعب بمشاعري، إلى أن عرفت الخبر اليقين، والمفارقة هنا أنه ليس حبًا في إخباري بالموضوع، لكن خوفًا من أن أُسأل من أهليهم فلا أعرف الإجابة.
جاءني أخي الحبيب غسان، الذي تجمعني به رفقة عمر وأخوّة صادقة لا تجمعني مع شخص آخر، وكان غسان فردًا من هذه المجموعة الصغيرة التي كانت تجتمع بالسر عني، لم أكن أعرف عددهم ومخططاتهم، كل الذي كنت أعرفه أنهم يخططون لشيء كبير.
جاءني غسان وقال لي: “عايزك، في موضوع مهم بدي أحكيك فيه، خلينا نشوف بعض بعد صلاة العشاء ونتكلم، ضروري شوفك ما تنسى، الموضوع جدًا مهم”.
مرت الساعات الثلاث كأنها أيام، لم أعرف كيف قضيتها، صلينا المغرب في المسجد وأنا أرمق أخي غسان ليراني عسى أن يرأف بي ويطلعني على الخبر قبل الوقت المحدد، لكن الوقت لم يحن، وعزة نفسي رفضت أن تقدم له طلب استرحام لكي يحكي لي قبل موعدنا، وجاءت ساعة الحقيقة حيث أذن لصلاة العشاء، وتوجهنا جميعًا إلى المسجد الذي لا يبعد عن منزلنا أكثر من عشر دقائق سيرًا على الأقدام، وبعد صلاة العشاء بدأ الجميع يخطط للسهرة والعشَاء، وأنا لا همّ لي إلا موعدي المرتقب، انطقلنا جميعًا إلى حَيِّنا حيث نجتمع دائمًا قبل أيّ مشروع سهرة، وكنا نجلس على حافة الطريق، والدنيا ليل مظلم ولا يوجد في تلك الأيام أي إضاءة للطرقات.
جاء غسان وقلبي جاء معه، وأخذني معه إلى سطح منزل مجاور، وبدأنا السير بخطى خفيفة كي لا نلفت الأنظار، وقال لي: “نحن عنا دورة رايحين عليها والشباب كلفونا نروح نشارك فيها، وما بدهم حدا يعرف بالموضوع، نحن أربع شباب حنشارك بهيدي الدورة، رايحين يوم الخميس وراجعين يوم الأحد، فإذا حدا سأل عني خبره إنه عندي شغلة أو رايح لعند أصحابي وأنا خبرت والدتي وأخي أني حغيب يومين ثلاثة وراجع عندي مشوار على بيروت في شغلة بدي خلصها وأرجع”.
أنا: ماشي، بس أنت وين رايح؟ وشو هي هالدورة السرية اللي رايحها وما بدك حدا يعرف فيها؟
صمت غسان قليلًا وأجاب: عندي دورة بالكشاف.
أنا: دورة كشاف؟! شو يعني كشاف، وليش الموضوع سّري، وعاملين منه كل هالطوشة!
غسان: الشباب قرروا يفتحوا فوج بالكشاف وباعتينا على دورة حتى نتعلم ونتأهل، ولما نرجع بعد كم يوم بيقرروا شو بدهم يعملوا.
في هذه اللحظة ندمت على كل الأفكار الشيطانية التي راودتني، وعلى الألم الذي سببته لرأسي بإرادتي، الشباب بكل بساطة ذاهبون للمشاركة في دورة كشاف، بئستم وبئست الدورة التي ستشاركون فيها، السرّ هو دورة كشاف!
مرت الأيام الأربعة، وعاد الشباب الذين كانوا يخوضون تجربة لم يكونوا يحلمون أن يمارسوها في حياتهم، عادوا إلى ضيعتهم وأهلهم وأصدقائهم، محمّلين بكمّ من الأفكار والمشاريع، بأمل كبير لا يقف أمامه إنسان، مقتنعين أن على الإنسان مهما كان وكيفما كان عليه أن يكون إنسانًا نافعًا في مجتمعه وبيئته وأهله.
أضاؤوا شعلة الانطلاق، وعقدوا الاجتماع الأول بعد عودتهم، وكانت الشرارة الأولى للبدء بالعمل، فكان القائد أحمد الصغير عميدًا للفوج، وبدأ العمل على تأسيس فرق صغيرة، كلٌ بتخصصه، فكانت فرقة الجوالة الأولى عشيرة القعقاع بن عمرو بقيادة القائد وفيق الحاج شحادة، وكانت فرقة الكشافة الأولى بقيادة الشيخ إياد عبد الله، وقطيع عبد الجبار خيري للأشبال بقيادة القائد غسان الحجار الذي كنت مساعده في تلك الفرقة الصغيرة.
مضت الأيام والسنون وأنا أتدرج في العمل الكشفي التطوعي، حتى أصبحت الكشفية جزءًا لا يتجزء من حياتي، بل أصبحت هي كل حياتي.
كبر ذلك الشاب اليافع ابن الـ 17 عامًا، وأصبح رجلًا ناضجًا، أنهكته التجارب والحياة، تزوج وأنجب وأدخل أبناءه إلى الكشافة، سافر وغامر، رحل وارتحل، خاض الدورات والتجارب، تنقل من عمل إلى آخر، وكانت الكشافة تنتقل معه أينما حلّ أو ارتحل، حتى أصبح لا يعرف إلا بها، ولا ينادى له إلا باسمها “قائد وسام”.
اليوم وبعد هذا الزمن الطويل أصبح عمري في الكشفية خمسة وعشرين سنة، قضيت معها أجمل الأوقات، تعرفت على أناس من كافة أنحاء العالم العربي والإسلامي والعالم بسببها، تربيت في مدرستها، وأربي النشء اليوم في نفس المدرسة التي تربيت بها.
فعلًا لقد أصبح عمري الآن خمسة وعشرين عامًا، وكل عام سابق لم أعرف فيه الكشافة لا أعدّه من عمري، فسامحيني أيتها السنوات السبع عشرة، لم استطع أن اعترف بك، فعمري بدأ بمعرفتها هي وحدها .. إنها كشفيتي.