غالبيتهم العظمى من الرجال الأغنياء الكبار في السن ذوي البشرة البيضاء، ورُغم أنهم يعيشون في بلد يهيمن عليه بشكل متزايد الشباب والأفارقة واللاتينيون والنساء، إلا أنهم يعيشون بمعزل في عالم ثرائهم الخاص ببضعة مدن وأحياء، ويصرون على ضخ ملايين الدولارات للتأثير على نتائج الانتخابات، غير مبالين بما تعنيه الديمقراطية من أهمية الأخذ في الاعتبار بآراء وتوجهات تلك الشرائح الفتية والنامية، والتي تفوقهم عددًا.
تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن نصف الأموال التي تم ضخها لدعم المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين على السواء أتت من 158 أسرة ثرية فقط، حيث قامت تلك الأسر بالتبرع بـ176 مليون دولار في المرحلة الأولى من الحملات الدعائية للمرشحين، وهي أسر لا تنتمي معظمها لطبقة الأثرياء التقليدية في الحقيقة، بل تنحدر أغلبها من أصحاب الثراء السريع الذين دخلوا لعبة رأس المال في نيويورك، أو اشتروا حقوق استغلال النفط في تكساس بأقل من ثمنها، أو وضعوا أقدامهم في عالم هوليوود وإنتاج الأفلام، إذ تنتمي أكثر من 12 أسرة منهم لبلدان مثل كوبا والاتحاد السوفيتي سابقًا وباكستان والهند وإسرائيل.
كما هو متوقع، تميل تلك الطبقة الثرية إلى اليمين، فمن بين تلك الأسر الـ158، لا تدعم الديمقراطيين سوى عشرين أسرة فقط، والبقية تتجه للجمهوريين الذين تعزز وعودهم من اقتصاد تلك الطبقة، حيث يميل الجمهوريون إلى تخفيف الضوابط على حركة رأس المال، وتخفيض الضرائب على الدخل والأرباح والثروات التي تتم وراثتها من جيل لجيل، وهم بإلقاء وزنهم خلف المرشحين الجمهوريين لا يضغطون فقط لتعزيز الرأسمالية المتطرفة، ولكن يخلقون نوعًا من السقف لطموحات شرائح ديمغرافية واسعة بدأت تميل بقوة في السنوات الأخيرة للديمقراطيين، مثل الشباب واللاتينيين والأفارقة.
هو سقف يحد من قدرة الديمقراطية على تمرير طموحات الناس إذن، حيث يرى ثلثا الأمريكيين بأن الضرائب يجب أن تكون أكبر على من يحصلون على أكثر من مليون دولار سنويًا طبقًا لإحدى استطلاعات الرأي، في حين يقول 60% منهم بأن الحكومة يجب أن تضطلع بدور اقتصادي لسد الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء على غرار نظم الرفاهية في الاتحاد الأوروبي، ويميل 70% إلى حماية منظومة الضمان الاجتماعي والصحي كما هي، على العكس من أصحاب الرأي اليميني ممن يريدون تقليصها.
“المنظومة المالية للدعايا الانتخابية حاليًا أصبحت قوة مناهضة للأنماط التي يتجه لها الناخبون الفعليون والسياسات التي يريدونها،” هكذا يقول خبير السياسة والديمغرافيا، راي تيكسيرا، التابع لمركز التقدم الأمريكي المعروف بمواقفه الاجتماعية الأقرب ليسار الوسط والديمقراطيين بشكل عام، ولكن ما يقوله ليس غريبًا في الحقيقة على نخبة لا تتسم فقط حركات أموالها بتقويض النظام الديمقراطي، بل ونمط حياتها الشخصية البعيد عن العامة والمنعزل تمامًا في أبراجه العاجية.
جيتو الأثرياء الجغرافي والديمغرافي
ثمانية من الأسر الأكثر ثراءً وتبرعًا بالأموال لحملات الرئاسة الأمريكية تعيش في مربع واحد بهيوستن بولاية تكساس
عن طريق تتبع العناوين والمقرات التي أتت منها تبرعات الحملات الانتخابية وبعض الوثائق الحكومية، يمكن لنا أن نرسم خريطة لتلك النخبة الثرية التي تعيش في جيتو ديمغرافي وجغرافي في آن واحد إن جاز القول، فمعظم الأحياء التي يعيشون فيها تقبع في حدود تسع مدن رئيسية، مثل بِل أير وبرينتوود في لوس أنجلوس، وريفير أوكس في هيوستن بولاية تكساس حيث أباطرة الطاقة الأمريكيين، وإنديان كريك فيليدج وهي جزيرة خاصة بالقرب من ميامي في ولاية فلوريدا وتمتلك قوة أمنية خاصة لحراسة 35 منزلًا فقط تطل على ملعب ضخم للجولف.
معظم هؤلاء بالطبع يختلطون ببعضهم طوال الوقت، ويزدادون انكفاءً بالاقتصار في تعاملاتهم الاقتصادية وصفقاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية على نفس الدائرة، فتلك الأسر تدخل في شراكات مالية مع بعضها البعض، وتتزوج من بعضها، بل وتمتلك نفس الأذواق الموسيقية وتحضر نفس الحفلات كل شهر، وربما تلعب القمار على نفس الطاولة كل أسبوع في ملاهيها الليلية الباهظة التي يمتلكها أحدهم.
تعكس تلك الثروات الهائلة، والتي وضعت 50 من تلك الأسر الثرية على قائمة أغنى 400 في العالم، عملية الثراء السريع عن طريق قطاع الخدمات المالية ونمو قطاعي النفط والغاز، واللذين حوّلا من شكل الاقتصاد الأمريكي في العقود الأخيرة، كما أنها تستفيد من سمات المنظومة الرأسمالية الأمريكية سياسيًا واقتصاديًا، والتي تزيد من الفجوة بين الطبقات، وتحصر تأثير السياسة، والتأثير على السياسة، للطبقات الثرية، ولا عجب إذن أن معظم أعضاء الكونجرس الأمريكي هم من المليونيرات الصغار على أقل تقدير إن لم يكن المليارديرات، على العكس من برلمانات أوروبا التي تمثل الطبقة الوسطى جزءًا كبيرًا منها.
جزيرة إنديان كريك فيليدج بميامي حيث تعيش 35 أسرة فقط، اثنان منها من المتبرعين للحملات الجمهورية
تتضاءل إذن حصة الطبقة الوسطى من الدخل القومي، كما تقول الإحصاءات، في حين تزداد حصة تلك الأسر، في نفس الوقت الذي يزيد فيه تأثيرها السياسي لصالح تضاؤل ثقل الأولى نتيجة هيمنة رأس المال على العملية الديمقراطية بشكل تصبح معه أصوات الملايين من الطبقات الفقيرة والوسطى محدودة التأثير فعليًا رغم كونها جزءًا من منظومة ديمقراطية، وتقويض الديمقراطية بهذا الشكل لا يقتصر فقط على مواسم الانتخابات والدعايا، بل ويمتد طوال الوقت عن طريق تمويل تلك المجموعات الثرية القريبة من الجمهوريين.
ببساطة، وكما هو معروف منذ عقود عدة، تعكف تلك الأسر على تأسيس مراكز أبحاث خاصة ومستقلة تُعرَف بالـ “ثينك تانكس،” والتي تلتف بها على فكرة الجامعات والدوائر الأكاديمية المعتبرة، حيث ينتمي معظم الأكاديميين وأساتذة الجامعات للطبقة الوسطى ويؤيدون الديمقراطيين بشكل كبير، وهو ما يفسر انتماء أغلب مراكز الأبحاث تلك لليمين الجمهوري، وخروج مئات الكوادر منها لصالح إدارة جورج بوش الابن في العقد المنصرم، وغيرها من حملات وشركات الجمهوريين، وكأن الأموال فقط تكفي لبناء نخبة “أكاديمية” أو شبه أكاديمية ومجموعة كوادر تهمش دور الأكاديميين التقليديين.
لم يكن غريبًا أن نسمع النُكتة المعتادة من بعض أساتذة الجامعات في أقسام العلوم السياسية في أيام بوش، والذين كانوا يقولون إن الديمقراطيين وأساتذة الجامعات مكانهم في المراكز الحقوقية والبعثات التعليمية الأمريكية، في حين تُحفَظ المناصب الدبلوماسية للجمهوريين من خريجي الثينك تانكس، وهو حال لعله تبدل قليلًا بعد رئاسة أوباما.
الثراء السريع وتقويض الديمقراطية
الثراء السريع عن طريق الدخول إلى لعبة وول ستريت وإنتاج الأفلام أو الرهان على حقول الغاز والنفط الجديدة التي وضعت الولايات المتحدة على قدم المساواة مع السعودية وروسيا من حيث الإنتاج، تختلف تمامًا عن الرأسمالية التقليدية والتي بنت عن طريقها نخب أمريكا القديمة أموالها وشركاتها بالعمل الدؤوب على مدار عقود، فالرأسمالية “الدؤوبة” تلك إن جازت تسميتها كذلك لطالما احترمت وجود منظومة ليبرالية نتيجة انتعاشها في ظل وجود نظام مالي ليبرالي وديمقراطي، أما أصحاب الثراء السريع فقد تعلموا درسًا مناقضًا تمامًا، وهو أن بناء الثروات ليس نتاج عمل دؤوب بقدر ما هو لعبة ومقامرة سريعة.
تلك الطبيعة المقامرة لدى هؤلاء تقوّض تمامًا من الأسس الليبرالية سياسيًا للنخب الرأسمالية الجديدة، والتي ترى أنها يمكن أن تحصل على ما تريد بسرعة، دون العمل وفق قواعد أي منظومة، حتى ولو كانت رأسمالية، ودون التقيد حتى بالحد الأدنى من احترام المؤسسات المنتخبة والالتزام بالتأثير عليها ودعم حملاتها وفق حدود ما كما كانت الأحوال في الثمانينات وما قبلها، فالأموال تأتي بسرعة وكأنها ثمرة للفهلوة ليس إلا، وهي فهلوة تدفع أصحابها لانتهاج نفس السلوك في السياسة وليس فقط في الاقتصاد.
من المنطقي إذن أن نجد مرشحين بأفكار شديدة التطرف يأخذون الطيف السياسي الأمريكي لأقصى اليمين منذ مطلع هذا القرن، على عكس الحال في القرن العشرين، بينما تجري الملايين من الدولارات لدعم حملاتهم، وليس عجيبًا أن نعرف أن العائلات الثلاث الأكبر التي ضخت الأموال حتى الآن، وهي عائلة ويلكس من تيكساس التي تعمل في تزويد الشاحنات لحصول غاز شيل، وعائلة مرسرز في نيويورك، وعائلة توبي نويغِيبوير بتكساس، تقف خلف السيناتور المتطرف تِد كروز القادم من تكساس أيضًا، والذي ينتمي في الحقيقة لحزب الشاي اليميني لا الجمهوري الأكثر اعتدالًا.
إلى متى يستمر هذا النمط الجديد المتنامي مع ثورة غاز شيل وتنامي نفوذ الأثرياء الجدد؟ لا نعرف، ولكن ما نعرفه أنه يقوّض الديمقراطية بشكل أكبر بكثير من الرأسمالية التقليدية التي طالما سمعنا عما يجري فيها من تشكيل لوبيات والضغط لصالح مرشحين وما إلى ذلك، فما يحدث الآن يتجاوز حتى المقبول سابقًا في إطار الديمقراطية الرأسمالية الأمريكية، وينذر بانقلاب الطاولة في وقت ما ليس ببعيد نتيجة تنامي الشرائح الشبابية واللاتينية والأفريقية.
هذا المقال منقول بتصرّف من نيويورك تايمز