محاولات تغيير الأنظمة تسلك عدة طرق لتصل إلى السلطة، هناك من يبدأ من القاعدة – الجمهور – ويعمل معه لعله يتغير ويصل أحد أفراد هذا الشعب الجديد إلى السلطة ويعمل على تنفيذ أجندة التغيير، وهناك من يحاول أن يصل إلى قمة الهرم مباشرة بأي طريقة كانت: انقلابًا عسكريًا أو ثورة عسكرية أو اغتيال القيادة والقفز مكانها بأي وسيلة أخرى، وهناك من يعمل في المسارين يتحرك في الشارع ومع الجمهور، ينشر الوعي وثقافة الحرية والكرامة ورفض الظلم، وعندما تتكون قاعدة صلبة من الشعب تؤمن بهذه القيم يبدأ أصحاب هذا الطرح في محاولة الوصول إلى هرم السلطة بطرق يكون الجمهور مشارك فيه: انتخابات أو ثورات شعبية أو احتجاجات عمالية وطبقية.
الفرق بين الثلاث أطروحات أن الشعب في الثالثة موجود ومشارك بنسبة ما – القاعدة الصلبة للتغيير – وبالتالي سيتحمل ما يتبع هذا التغيير الجديد من تبعات وعوائق ومهام ولن يكون عقبة في وجه التغيير، ولن تستطيع قوى الظلم والاستبداد التي هُزمت في هذه الجولة أن تعيد الكَرّة مرة أخرى وتخدع الجمهور بشعارات براقة وزائفة، بل وقد تستطيع أن تخدع بعض من شاركوا في التغيير وتجذبهم ناحيتها وهم لا يدرون.
ما يمنع انزلاق الجمهور في هذا الفخ هو المجهود الذي بذل معه في إقناعه بقيم الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل، وسيكتمل هذا الاقتناع ويزداد بعدما تقوم السلطة الجديدة بدورها في زرع هذه القيم وتكون هي نفسها مثالًا واضحًا عليها.
خطأ ثورة يناير هو افتقاد هذه القاعدة الصلبة التي تؤمن بهذه القيم، تؤمن بها مجردة بدون النظر للتوجه السياسي والاختلاف الأيدلوجي، فالحرية مكفولة للجميع ومن حق الجميع أن يُعَبِر دون حجْر أو تخوين، من حق متطرف الفكر قبل الوسطي أن يعبر عن رأيه ونناقشه ونتفاهم معه.
لكن ما حدث هو أن الإسلامي يؤمن بحرية الفكر لأنصاره أما المخالفون فهم علمانيون يُعادون الدين ويريدون مجتمعًا لا يؤمن بالقيم والأخلاق، مجتمعًا منحلًا، والليبرالي أو اليساري يرى نفسه صاحب الفكر المنفتح الذي يجب الالتزام به والحجْر على ما عاداه لأنهم من العصور الوسطى والقرون الغابرة واتِباعُهم يقودنا لعصر الجلباب والقبقاب، شباب الثورة أو بعض من استطاع أن يخرج من طوق الأيدلوجية وقعوا في نفس الخطأ، كل من خالفهم او اعترض عليهم هو يخون الثورة ويعمل لمصالحه وحساباته الضيقة، ويجب بعد الثورة أن تُحجب أصوات الإصلاحيين ولا مكان لهم فيما بعد الثورة، بهذه الطريقة كان إيمان قاعدة الثورة بكل أطيافها بالحرية لم يكن إيمانًا صلبًا بل كان إيمانًا أيدلوجيًا للمناصرين والمؤيدين.
وبالمثل كانت القيم الأخرى تُقاس بنفس الطريقة، فالمساواة تكون بين أطراف الفصيل الأيدلوجي الواحد أما من خالفهم فهو إما أقل دينًا أو أقل انفتاحًا أو أقل ثورية، بل وداخل الفصيل نفسه وجدت المزايدات طريقها فهناك الأكثر والأقل حفاظًا على الشريعة، وهناك الأكثر والأقل تحفُظًا في التعاون مع الإنغلاقيين تجار الدين، وهناك الثوري المحافظ على نقاء جينه الثوري، وهناك من حدثت له طفرة جينية ثورية جعلته أقل نقاءً.
ومع إراقة الدماء بدأ هذا العوار في الإيمان الصلب بهذه القيم يتضح، فكل قطرة دم تُراق إذا كانت من الأنصار تقوم الدنيا ولا تقعد، أما من الأغيار فكانت المقولة السائدة “إيه وداهم هناك”، قالها التيار الإسلامي في مذابح مجلس الوزراء ومحمود محمود 1 و2 والعباسية وماسبيرو وغيرها، قالها التيار الليبرالي واليساري في أحداث الاتحادية ومكتب الإرشاد ورابعة والنهضة والحرس الجمهوري والمنصة وما تلاها من مذابح.
والحق يُقال إن كثير من التيار الشبابي الثوري الذي تخطى حاجز الأيدلوجية كانوا الأكثر تمسكًا بالإيمان الصلب بهذه القيم خصوصًا عند مسألة إراقة الدماء، انجروا في بعض المواقف وكفروا أحيانًا بإيمانهم الصلب، لكن موقفهم من الدماء ظل ثابتًا لا يتغير.
الطرح الأول للتغيير لم يحظ بنجاح على طول التاريخ، فلم نر جمهورًا ظل يعمل مريدو التغيير في وسطه حتى استطاعوا أن يغيروه لكي يصل أحد المتغيريين الجدد إلى للسلطة، أكثر من اعتنق هذه الفكرة ودافع عنها السلفيون والإخوان في فترة ما قبل مبارك.
السلفيون سلكوا طريق التغيير بالرقائق والعلم الشرعي والإخوان بالدعوة العامة والفردية، وعندما كنت تحاور أحدهم في جدوى هذا الأمر يحسب لكم الأمر بطريقة حسابية مبسطة ليُشعرك أن هذا الطريق مضمون النتائج، وقعت الثورة وسقطت كل المعادلات والمتتابعات الحسابية.
التغيير بناء لكي يتم لا بد من وجود أدوات هذا البناء والأهم من هذه الأدوات وجود الحارس الذي يعمل على حراسة البناء أثناء وبعد البناء، فقد يبني الباني ويتعب ويأتي من يجئ خلفه ويهدم وكأن شيئًا لم يكن، ولو كان هناك مئة بانٍ وهادم واحد لفاز الهادم بسهولة، هذا أكبر عوار في طرق تغيير الجمهور، مجموعة قليلة تبني سواء أكان البنيان أخلاقيًا أو ثقافيًا أو قيميًا أو دينيًا، ولا أقول لك هادم واحد بل ألف هادم ولا وجود لحارس يحفظ البناء ويمنع الهدم، وما أفسد السلطة عندما تكون هي الهادم.
الأطروحة الثانية للتغيير أكثر أخطارها هي أن إرادة الأمة توضع في يد حفنة من البشر يتحكمون بها ويتلاعبون بها تخضع للأهواء والنزوات والأغراض، كذلك الجمهور غير حاضر ولا فاعل في هذا الطرح وبالتالي فلا ضمان لعدم تحول هذا الطرح لصورة جديدة من صور القهر والاستبداد والظلم.
ثورة يوليو مثال واضح، انقلاب عسكري تحول لثورة أيدها الشعب ووقف معها وأوكل لها التغيير، أي وضع التغيير في يدة حفنة من البشر لهم رغباتهم ونزواتهم وأطماعهم، وبمرور الوقت تحولت الثورة إلى سلطة استبداد وقهر.
الأطروحة الثالثة للتغيير أظنها الأفضل، هي تحتاج لمجهود عظيم وبذل شديد وتحتاج لذكاء أيضًا فأنت ستضطر لتُحاور وتُناور وتعمل بمبدأ التُقية حتى لا تدخل في صدام مباشر مع سلطات الاستبداد، ستحتاج لهذه القدرات حتى تعمل على بناء القاعدة الصلبة المؤمنة بقيم الحرية والكرامة والمساواة للجميع دون تفرقة بسبب الانتماء الأيدلوجي أو الحزبي أو العقدي، وعندما تصبح هذه القاعدة قوية متماسكة مؤمنة بقيمها يبدأ التفكير في السلطة والاستعداد لموجة التصادم المباشر.
هناك سلطات قد ينجح معها الضغط الداخلي واستغلال فشل السلطة لتحريك المحكومين، وسلطات ينجح معها الضغط الخارجي لمن يملك القدرة على التعامل مع ازوادحية معايير الخارج وإمبرياليته ومصالحه، وهناك سلطات لا حل معها سوى الثورات سواء أكانت ناعمة أو خشنة، كل سلطة يستطيع فاعلو التغيير فيها تقدير الطريقة الأمثل للتغيير متى امتلكوا قدرات قراءة الواقع الداخلي والخارجي وحسابات المفاسد والمصالح والمكاسب.
أعتقد أن ما نحتاجه الآن في بلادنا التي مرت من أزمة الثورات المضادة والتي لم تمر بعد هو الطرح الثالث؛ تكوين قاعدة صلبة إيمانها بقيم الحرية والعدالة والمساواة إيمان صلب لا يغيره الانتماء أو الاختلاف، العمل على تكوين هذه القاعدة يحتاج لجهد عظيم وأفكار مبدعة وخلاقة ويختلف من بلد لآخر.
ففي الدول التي تجاوزت نوعًا ما أزمة الثورات المضادة، على حكومات ما بعد الثورة أن تنشط في زرع هذه القيم قولًا وفعلًا وتكون هي مثال حي عليها، وكذلك على مؤسسات المجتمع المدني أن تبذل كل جهدها لترسيخ هذه القيم وبالأخص في الشباب والطلاب في مراحل التعليم الأساسية، والأحزاب السياسية عليها أن تقوي هذه القيم في قواعدها الحزبية وتمارس هذه القيم داخل الإطار الحزبي وبالتدريج ستنتقل للإطار العام والجماهيري.
أما البلدان التي تعاني أزمات الثورات المضادة فالأمر يحتاج لإبداعات خلاقة وعظيمة لترسيخ هذه القيم وتكوين القاعدة الصلبة مع الحذر من سلطات الثورات المضادة حتى لا تجهض المشروع أو تضيبق على العاملين فيه، وفي هذه البلاد أقدر من يتحمل تبعة هذا المشروع ويستطيع أن يعمل على إنجاحه هو الشباب الذي يستطيع أن يتخلص من طوق الأيدلوجية والتنظيم ليتعاون فيما بينه ويعمل معًا فيكون مثالًا حيًا وواقِعًا فعليًا على هذه القيم ونواة صغيرة للقاعدة الصلبة للتغيير.