كان عيبه أنه تجاوز خطوط الإنتاج المعروفة والمعمول بها، قدّم فنًا يقاتل مع الزمن، ليجلب لنا أجمل ما فيه، ويذهب بنا إلى أجمل ما فينا ـ أو في أكثرنا ـ : طفولتنا، أحدّثكم اليوم عن الفيلم المظلوم Boyhood.
حصل هذا الفيلم على أُوسكار يتيم يتعلّق بأفضل ممثلة في دور مساعد، حازت عليها باستحقاق الممثلة بَتريشيا آركِت Patricia Arquette، وذلك بعد أن ترشح لخمسة جوائز أوسكار، بدا أنه يستحق على الأقلّ ثلاث منها، بدأ العمل في مايو 2002 وانتهى في أغسطس 2013، لكن التصوير استغرق 45 يومًا فقط، قدم المخرج Linklater خلال هذا الزمن الطويل/ القصير أحد أجود الصور التي يمكن لسينمائي أن يقدمها عن الطفولة، وعن أمريكا، وعن الحياة، تتشكل هذه الصورة منذ كان الصبي Mason في السابعة من عمره، لتقدَّم لنا بعد اثني عشرة سنة في شكل فيلم سينمائي وقد غادر Mason حياة الطفولة ليبدأ فترة شبابه بالحياة الجامعية، خلال ساعتين وخمس وأربعين دقيقة، تتابع تشكُّل هذه الصورة، بدقائقها وتفاصيلها وأحداثها الصغيرة التي تكتشف كم هي مهمّة وكبيرة.
جمال الفيلم برأيي، لم يكن حقًا في التغيير البطئ لوجوه الممثلين، وظهور التجاعيد بشكل طبيعي، وظهور الزغب والنهود دون ماكياج ودون الاستعانة بممثلين من أعمار مختلفة، جمال الفيلم أساسًا في تغير التفاصيل المحيطة بهم، والتي برأيي يستحيل على أقوى خبراء الديكور وتصميم الإنتاج التفكير بها جميعًا، كل تلك التفاصيل التي أحاطت بـ Mason وعائلته، لم يفكر بها أحد، بل وجدت هناك بطبيعتها، وتغيّرت أيضًا دون أن تستأذن أحدًا، تحولت لعبة الـ Gameboy التي ظهرت أول الفيلم، إلى Nintendo Wii بمرور الوقت، وتحولت الهواتف الكبيرة إلى أخرى صغيرة، ثم إلى لوحات إلكترونية، عشرات الماركات التي ظهرت حينها واختفت بعد ذلك، عشرات المنتجات التي عاصرت بالفعل زمن التصوير، الموضة السائدة في الديكور، في الملبس، ربما أيضًا في اللغة المستعملة، في العبارات المتواترة، الأحداث المحيطة بالعالم الصغير يعيشون فيه، كل ذلك جعل من Boyhood قصة أكثر واقعية من الواقع نفسه ربما، أكثر طبيعية، لكن بصيغة مختصرة كثيرًا، تجعل المشاهد كأن بينه وبين هذه العائلة أنبوبًا زمنيًا غريبًا، يطلّ منه دون أن يتأثر بالزمن، هو واقع يجعل المشاهد خارج الواقع، لو تفهمون ما أعنيه.
ليس هذا فحسب، لكنّ المخرج لم ينس في خضم ترويضه الماكر للزمن، أنه يصنع صورة مهما تكن طبيعية، لا تكتمل إلا بتدخل من يديه، لقد استطاع Linklater استعمال هذا المحيط الطبيعي الذي وفره لقصته، ليبث فيها روحًا رقيقة مليئة بالأحاديث والموضوعات التي تطرق ذهن كل ولد مثل Mason.
طبيعة الموضوعات التي شكلت حوارات Mason مع محيطه، كانت عاملاً أساسيًا في إبعاد الملل عن المشاهد، بل إن هذه الحوارات المنتقاة والمنثورة بعناية كبيرة على مراحل طفولة البطل، تقوم تمامًا بعكس ما تقوم به تفاصيل إطار القصة، أي أنها تعيد المشاهد إلى نهر الزمن، وتجعله يعيش داخله حين تخرجه التفاصيل منه، كلّ حوارٍ للطفل هنا، مع والده الذي يسوّق له ذكرياته، كل موقف مع والدته التي تنتابها لحظات ضعف شديدة، كل مشادة مع أخته الأكبر منه سنًا، وكلّ تحدٍّ يحرجه أمام أصدقائه، هو ذكرى تختزنها ذاكرتنا، هو قصة مخبئةٌ في داخلنا، ستخرج كل تلك الصور مع هذا الفيلم، وسوف تعود طفلاً، وسوف تواجه إجاباتك وأفكارك ومعتقداتك الطفولية من جديد، سوف تضحك لهذه، وتعاود تقييمك لتلك، وتتحسر لما بدر منك في أخرى. Boyhood هو طفولة المشاهد أيضًا.
هذا الفيلم ممنوع من الإبهار، يمضي بسيطًا سلسًا ناعمًا مثل الزمن تمامًا، لن تحسّ بالملل وأنت تشاهده، لكنك لن تحس بالتشويق، ولا بالمؤثرات البصرية المذهلة، ولا الخوف الشديد على البطل، لن يجعلك تغرق في الأفكار الفلسفية المريعة، ولن يحدثك عن دور المثقف أو الفنان، ولن يطلب منك أساسيات الفيزياء ونظرية الكم والنسبية العامة لتفهمه، لكنّه في الآن ذاته، ثريّ، قويّ، عاتٍ مثل الزمن، هكذا أراده Linklater وهكذا نجح في إخراجه.
بالمناسبة، أخت Mason، في الفيلم، هي ابنة المخرج، وتكبر البطل ببضعة أشهر فقط، وكادت تقرر التوقف عن الفيلم، لأنها ملّت، لولا أن طلب أبوها منها المواصلة، أما والد Mason فيعمل في شركة تأمين تمامًا مثل والد Hawke الذي قام بهذا الدور، وأيضًا مثل والد المخرج، وكلاهما عاشا في تكساس التي دارت فيها الأحداث.
أخيرًا، يجب التنويه بالعمل الرائع الذي قامت به Patricia Arquette في هذا الفيلم، لقد كانت أمًا مناضلة – لن أخوض في التفاصيل – فعلت الكثير لابنيها لتضمن لهما طفولة يمكن لهما أن يتذكّراها بشيء من الارتياح، إنه ذلك الدور الذي لا يفرط في الدراما، ولا يفلت منها، يقدّم المعاناة دون أن يتحدث عنها (في الواقع تحدثت عنها في لحظة ضعف يمر بها أي شخص مثلها)، ويجعل المشاهد مرة أخرى يعود إلى طفولته ويتذكر أمّه، Patricia وبوصاية من المخرج، لم تقم بأية عملية تجميل طوال السنوات الـ 12 التي صور خلالها الفيلم، واحتفظت بتغيرات جسدها التي لم تكن لتعجب نجمة هوليودية مثلها.
هناك الكثير لأقوله عن تلك التفاصيل التي خاض فيها الفيلم: الهواية، الجنس، حبّ إظهار الرجولة، الآخر، الطموح، العلاقة مع الأب، مجتمع تكساس المحافظ وقيمه، وأفكاره وتقاليده، إلخ، هذا فيلم ثري جدًا، لا تفوّتوه، مدته 165 دقيقة، أي تحتاج إلى نهاية أسبوع مثلاً، لكنّه يستحق ذلك جدًا، لقد اعتبره بعض النقّاد أهم عمل سينمائيّ في هذه العشرية الثانية من الألفية الجديدة، واعتبروا عدم فوزه بالأوسكار، خسارة للجائزة نفسها وليست خسارة له، فاللحظات التاريخية التي تقف فيها السينما أمام عمل يكون أحد منعرجاتها، لحظاتٌ قليلة جدًا، ويبدو أن فيلم “صِبًى” Boyhood هو إحداها.
الاسم: Boyhood
المخرج: Richard Linklater
البلد: الولايات المتحدة الأمريكية
مدة العرض: 165 دقيقة
البطولة: Patricia Arquette, Ethan Hawke, Ellar Coltrane