أخيراً، وبعد أشهر بل سنوات طويلة من النداءات المتكررة من النخب والسياسيين الفلسطينيين، انطلقت الانتفاضة/الهبة الفلسطينية كما كان متوقعا، أي دون تخطيط مسبق ولا تحديد لساعة الصفر. وخلال أيام قليلة فقط، تبدو وكأنها قد تجاوزت سؤال الانطلاق، بل وسؤالي التوقيت/التأريخ والتسمية (هبة أم انتفاضة أم ثورة) إلى الأسئلة الأكثر أهمية ومحورية، أي أسئلة الاستمرار والتطوير والترشيد والأهداف والنتائج.
وهي أسئلة لا بد أن نشارك فيها جميعاً بما نملكه من أدوات وإمكانات، فنحن لا نملك رفاهية الاكتفاء بالمتابعة والتشجيع والدعاء فقط. إذ لسنا متضامنين مع فلسطين، بل نحن أبناء القضية وأصحاب الحق وجنود المعركة، شئنا أم أبينا، أقدمنا أم تولينا يوم الانتفاضة. وبين يدي هذا الفهم المبسط، نقدم التوصيات أو الخطوات العملية التالية لترشيد الانتفاضة، سعياً لإدامتها وإنجاحها:
أولاً، الانتشار الجغرافي: ما زالت الهبة الأكبر متركزة في مدينة القدس، ولهذا أسباب متعلقة بالاحتكاك المباشر مع الجنود والمستعمرين الصهاينة بالإضافة إلى غياب الدور الأمني للسلطة الفلسطينية في المدينة، إضافة إلى مشاركة بدرجة ما من الضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 1948 (التي تطورت على مدى الأيام الماضية). فإذا ما أردنا لهذه الانتفاضة التأثير والإيلام والاستمرار فينبغي أن تمتد المظاهرات والاحتجاجات على كامل الجغرافيا الفلسطينية (بما فيها الشتات) وخصوصاً الضفة الغربية.
ثانياً، البعد عن النمطية: بمعنى تنويع وإثراء العمل المقاوم والبعد عن اعتماد شكل واحد أو قوالب جامدة يسهل تتبعها وتوقعها وبالتالي احتواؤها أو منعها. بحيث تكون هناك حالات الدعس والطعن وإطلاق النار والمظاهرات والاضرابات والمواجهات مع نقاط الجيش والشرطة الصهيونيين، وغيرها من الوسائل المقاومة.
ثالثاً، عدم التشويش: ما زال لهيب الانتفاضة في بداياته وما يحتاجه الآن هو حمايته من الرياح والنفخ فيه بهدوء وروية وليس العصف به أو الإتيان بما يغطي عليه ميدانياً وإعلامياً
وسياسياً. والحديث هنا عن دعوات التصعيد و”الرد” بالصواريخ من قطاع غزة. إن آخر ما تحتاجه هذه الهبة هو افتعال مواجهة عسكرية صرفة تصبح هي على هامشها عديمة الفعل وفي الظل/الظلام الإعلامي، بينما نحتاج الآن إلى التركيز عليها وإعطائها الفرصة لتصل للزخم المطلوب.
رابعاً، سياسة النفس الطويل: دون حرق المراحل ودون رفع سقف التوقعات أو انتظار الإنجازات والأحداث الفاقعة أو العمليات البطولية اليومية. ذلك أن فلسفة الانتفاضة تقوم على استنزاف طويل الأمد للعدو وتقليل الخسائر في صفوف المنتفضين، والحالة الشعبية الداعمة للحراك هنا لها دور محوري في الدعم وتقليل الضغوط واستدامة الفعل الثائر.
خامساً، البرنامج والأهداف: باعتبار أن الانتفاضة عمل سياسي/نضالي يستهدف تغيير الواقع، فيفترض أن تكون لها أهداف محددة وبرنامج واضح تسير عليه، حتى لا تقفز في الهواء أو تغرق في العشوائية أو تكتفي بالفعل بعيداً عن غائيته.
وحين أتحدث عن الرؤية والأهداف والبرامج، فأنا أتحدث مرة أخرى عن عدم رفع السقف كثيراً لتجنب خيبات الأمل، فلا شك أن الانتفاضة الحالية (ومثيلاتها وأشباهها القادمة) ليست – ولن تكون – هي معركة التحرير الأخيرة، ولذلك فعليها أن تحدد أهدافاً معينة تحاول تحقيقها بل وإجبار العدو عليها.
وهنا تحديداً، لستُ مع الآراء المتشائمة التي ترى أن الانتفاضة/الهبة عمل بطولي سيقطف ثمره لاحقاً من يضيّع إنجازاته، كما حصل مع الانتفاضتين السابقتين. أولاً لأن العمل كلما كان منظماً وواعياً كان أجدر بأن يحقق أهدافه ويمنع المتسلقين وسارقي الإنجازات من فعل ذلك، وثانياً – وهو الأهم برأيي – لأن فوائد ونتائج الانتفاضة ليست محصورة بالمكاسب السياسية الملموسة، بل أزعم أن ما تزرعه هذه الهبات/الانتفاضات في العقل الباطن واللاوعي لدى قطاع الشباب والأجيال الشابة الجديدة من معان تعيد تعريف الصراع وأطرافه وأهدافه، بما يمسح ويهزم – بدرجة أو بأخرى – نظريات السلام الاقتصادي والفلسطيني الجديد والتعايش مع المحتل وحل الدولتين ..الخ، أزعم أنها هي الفوائد الاستراتيجية المتحققة والتي لا يجب أبداً أن نستهين بها أو أن نزهد في جني ثمارها، فهي الكفيلة – مع عوامل أخرى مساعدة – على استمرار/إدامة جذوة الصراع وتأطير الأجيال الجديدة في معركته.
سادساً، الدعم الإعلامي: لا شك أن الكلمة الأولى للميدان لكنها ليست الكلمة الوحيدة، ولا شك
أن “الشعر في زمن القنابل ثرثرة” كما قال الشاعر، لكنها تتحول أحياناً إلى سكاكين وقنابل وأسلحة في معركة الوعي والخبر والصورة، وهو ما اعترف به غير مسؤول صهيوني في الأيام القليلة الماضية. إن أحد أهم العوامل التي دفعت الشبان الأبطال إلى الميدان حاملين سكاكينهم هو نجاح وسائل الإعلام المختلفة في نقل المعاناة وتحفيز مشاعرهم، وعلينا جميعاً أن نعتبر أنفسنا جنوداً متواضعين في هذه المعركة في بُعْدَيِّ التحفيز والتوثيق.
سابعاً، بين المركزية واللامركزية: ولكل هذه الخطوات المذكورة وغيرها لا بد من عمل منظم وتنسيق وتخطيط وحاضنة شعبية داعمة ومشاركة، وهذا كله يتطلب انخراط الفصائل الفلسطينية في الانتفاضة بطريقة متدرجة ومدروسة.
فإذا كان من الطبيعي والمتوقع أن تنفجر الأمور فجأة وبلا تخطيط من أحد بل بمبادرات فردية تخطت الأطر التنظيمية والفصائلية في معظم تفاصيلها، وإذا كان من المتفهم عزوف بعض الفصائل عن وضع كل ثقلها وراء هذه الانتفاضة في أيامها الأولى للحفاظ على شعبيتها وانتشارها وضمها، فإن الطبيعي أيضاً أن العمل الفردي لا يغني عن العمل الجماعي، وأن الفصائل المعتادة على العمل المنظم قادرة على ما لايستطيعه الشباب المستقل في بعض الجوانب والمساحات.
ينبغي على الفصائل الفلسطينية المقاومة أن لا تسمح بخمود هذه الجذوة، عبر الحشد الشعبي والعددي للمظاهرات، وعبر الدفع بأطرها الشعبية والطلابية للشارع، وعبر وسائل إعلامها، وعبر المشاركة بعمليات عسكرية مختارة بعناية لتوافق الطبيعة الشعبية للانتفاضة قدر الإمكان، وعبر تنويع العمل الميداني ومناطقه الجغرافية، وعبر رفع الوتيرة بشكل متدرج ومواز للميدان.
بيد أن ذلك لا يعني امتلاك الفصائل للقرار الميداني، ولا تسيد الموقف أو البروز الإعلامي، فذلك مضر لجهة تخويف الشباب منها وتجييش بعض الأطراف ضدها (سيما في ظل خطاب منتشر بين الشباب عن خروجهم عن الأطر الفصائلية وكفرهم بها). ينبغي أن تكون هذه الفصائل في الخلفية لا المقدمة، داعمة للشباب لا متقدمة عليهم، موفرة لاحتياجاتهم لا آمرة لهم. وهذا يتطلب فرزها لقيادات ميدانية من الصف الثالث أو الرابع فيها وبعيداً عن قيادتها المعروفة لتشارك وتقود الميدان مع بعضها البعض ومع الشباب المستقل، بما يضمن التنسيق وتضافر الجهود وسهولة العمل وسرعة التحرك، مع البعد عن المركزية الجامدة التي تبطئ العمل وتسهل احتواءه، وينبغي أن يكون ذلك – مرة أخرى – مدروساً لا عشوائياً.
أدرك بالتأكيد أن الانتفاضة هبة شعبية عفوية وتسير في بداياتها بالدفع الذاتي بل وبعشوائية طبيعية، لكن واجب الوقت هو تطويرها وترشيدها والارتقاء بها، وأحسب أنه كلما استمر الحراك في الميدان كلما كان لدى الجميع الفرصة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق وترشيد الفعل المقاوم، سعياً لأفضل النتائج بأقل الخسائر وتجنباً للاحتواء و/أو الإخماد و/أو التمييع.