أعلن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينيت) عن حزمة من الإجراءات الأمنية لمواجهة ظاهرة طعن المستوطنين المتزايدة مؤخرًا، وقد كان من ضمن هذه الإجراءات عدم تسليم جثامين منفذي عمليات الطعن إلى أهلهم، وقد وصف المجلس هذه العمليات بالإرهابية المستهدفة لأرواح المدنيين، وبالتوازي مع هذا انطلقت العديد من الأصوات على منابر الإعلام والشبكات الاجتماعية العربية متحدثة عن إشكالية استهداف هذه العمليات للمدنيين الإسرائيليين.
يتحدث هذا المقال عن الجسد، سواء هذا الجسد الذي ترفض حكومة الاحتلال تسليمه إلى ذويه، أو إلى جسد المستوطن المتواجد على الأرض الفلسطينية، والذي تستهدفه عمليات الطعن والدهس وغيرها، يتحدث المقال عن الأجساد التي تسري وتتحرك على الأراضي الفلسطينية، أو تلك الأجساد التي يواريها ثرى ذات الأراضي.
تعتبر الحالة الفلسطينية هي الحالة الأخيرة على وجه الأرض لنزاع قائم على استعمار واستيطان أرض من قِبل جماعات غريبة عنها، فهذه الحالة التي تماثل ما حدث في كل من الجزائر وجنوب أفريقيا باقية من حقبة كان من المقبول فيها أن تقوم دول أو جماعات بالاستيلاء على أرض عاش عليها شعب ما بقوة السلاح، ولا يتوقف الأمر على الاستيلاء على الأرض، وإنما يستمر بهجرة كبيرة العدد لاستيطان هذه الأرض وبناء عدد من المستعمرات على أرضها واعتبارها جزء لا يتجزأ من الأرض الأم لهؤلاء المستعمرين.
يعرف هذا النمط بالاستعمار الإحلالي أو الاستبدالي، على العكس من الاستعمار الاستغلالي الذي يقوم بالسيطرة على أرض ما واستغلال أهلها عبر عدد قليل من الجنود والمسؤولين، كما الحال في سيطرة بريطانيا على أراضي مصر والهند مثلًا.
تبسط أي سلطة احتلال سلطتها على الشعوب المحتلة عبر مجموعة من السياسات، وأهم هذه السياسات تقريبًا هي بسط السيطرة على أجساد الضحايا، أي التحكم الكامل في شكل حياة وموت هذه الأجساد، يحدث هذا مثلًا عبر إقامة المؤسسات الصحية والعقابية التي تبسط سيطرتها على كل من صحة وحركة الأجساد في هذه الأرض، تقوم السلطات المحتلة بتعداد السكان ومعرفتهم فردًا فردًا بأحوالهم الصحية وعلاقاتهم الأسرية ويمكنها حبسها وتقييدها أو حتى قتلها في أي لحظة.
أما في الحالة الإحلالية فإنها تقوم أيضًا بجلب أجساد أخرى من الأراضي الأم للبلد بشكل مكثف، وتقوم عن طريق سيطرتها على أجساد أصحاب الأرض الأصليين بتحريكهم وضبطهم بشكل يعطيهم قدرًا أقل في الأهمية والقيمة من الأجساد المستوردة، وتدريجيًا يتم استبدال هذه الأجساد قليلة القيمة بالأجساد الأوروبية.
وبينما يجتمع كلا الجسدين تحت علم واحد، تظهر ثناية “المُستَعمِر/ المُستَعمَر” في الظهور، وهما كلمتان يحمل الجناس بينهما بعدًا أكبر بكثير من المعنى اللغوي، إذ يظهر عليهما تماثلًا شبه كامل شكلًا، إلا أن الفرق بينهما وإن وضعا في نفس الجملة هو فرق كالسماء والأرض.
تبدأ السلطة الاستيطانية تدريجيًا في نزع الهوية عن أجساد أصحاب الأهل بتعليمهم السلوك الأوروبي وتغيير عاداتهم الخاصة بالمظهر والملابس مثلًا، كما تبدأ بمنع وصول هذه الأجساد من الوصول إلى مناطق معينة من أرضهم كما يظهر في حالة الجدران الفاصلة وتصاريح الإقامة في حالة فلسطين.
وبالتدريج وعلى التوازي مع هذا تبدأ الأجساد الآتية من الخارج في اكتساب صبغة من الأصالة الزائفة عبر التواجد في الأرض المحتلة لفترة طويلة والبدء في ممارسة الحياة الطبيعية بشكل متواصل، فوجود أجساد ترتدي الزي العسكري يختلف تمامًا عن وجود أجساد أطفال صغار يرتدون الزي المدرسي ويشترون الحلوى من حانوت أنيق بجانب بيوتهم.
يعمل الجسد الغريب المفروض على الأرض في هذه الحالة عملًا مزدوجًا؛ الأول كإزميل يعمل على فصل أجساد أصحاب الأرض الأصليين عن الأرض والتاريخ، والثاني كجسر يجلب حقيقة تاريخية تمت صناعتها في أوروبا عن الحق التاريخي لليهود في الأرض إلى المنطقة المستعمرة، يصل هذا الجسر زعم تاريخي (بغض النظر عن صحته من عدمها) بأرض وواقع قائم، ويمر من فوق حقيقة مجئ هؤلاء اليهود من أركان أوروبا ومعيشتهم بها كمواطنين لفترة طويلة وكأنها لم تكن.
ومع استمرار وجود الأجساد الغريبة وتوافد أجيال جديدة منها تولد على هذه الأرض، تبدأ أكذوبة الحياة الطبيعية في التشكل، ويدعم الزمن عملية إضفاء الأصالة على هذه الأكذوبة، إذ تبدأ الغرز الناتجة عن زراعة الجسد الغريب في الأرض في الالتئام، ويبدأ الزمن في إخفاء الأثر عن العين غير المتفحصة، وتفاجئ هذه العين برؤية وضعًا كان منذ بعض الوقت غريبًا وقد أصبح مغرقًا في الطبيعية، وتبدأ التساؤلات عن أخلاقيات تدمير حيوات الناس ومهاجمة حيوات المدنيين الذين ولدوا على هذا الحال في البزوغ.
إلا أن في هذه الحالة تحديدًا لا يجب أن تنسينا مشاعر التعاطف الإنساني ورؤية الأجساد الغاصبة على أنها أجساد بشرية كأجسادنا تمامًا، الأصل في هذا الصراع، إن الجسد الغاصب أو المستوطن الذي يعيش على هذه الأرض هو الهدف والغاية والأصل في العملية الاستعمارية والاستيطانية الإحلالية قبل كل شيء، وجود جسده في هذه اللحظة وفي هذا المكان هو عملية الاستعمار والاغتصاب ذاتها.
وبالتالي يصبح من الطبيعي جدًا أن يتم النظر لهذه الأجساد الغاصبة على أنها مجال المقاومة الأسمى، والأجساد المدنية التي تمارس حياة غير مقاتلة وعسكرية تحديدًا، فهذه الأجساد هي الفاعل المستمر لفعل الاستعمار والاغتصاب أكثر حتى من الأجساد العسكرية الحاملة للسلاح من جنود وضباط، فالرغبة في توجيه الغضب الفلسطيني للقوات العسكرية الإسرائيلية باطلة ببطلان ثنائية المدني/ العسكري في المجتمع الإسرائيلي لأسباب كثيرة، والسبب الأهم أن الخلاف هنا ليس خلافًا إستراتيجيًا على حدود أو مصالح ما، بل خلاف وجودي على وجود المجتمع الإسرائيلي على هذه الأرض تحديدًا.
وبهذا الشكل تصبح الأجساد المدنية الإسرائيلية هي موقع المعركة الحقيقي والعادل، وتصبح مجال المقاومة الأكثر إيلامًا والأقرب إلى صلب الحقيقة، خصيصًا وأن المقاومة في هذا المجال تأتي من أجساد مدنية أيضًا، إلا أنها أجساد قُمعت ومُنعت وحُبست ولكنها تبقى قابضة على وجودها الذي تحاول أجساد المستوطنين الإسرائيليين طمسه من الأساس.