تشكل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية عبئاً كبيراً على واقع الحقوق والحريات للشعب فلسطيني، والذي هو أصلاً محروم من حقوقه نتيجة وقوعه تحت الاحتلال الإسرائيلي. فالسلطة في رام الله لا تتوانى عن فتح أبواب زنازينها على مصراعيها لمعارضيها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تواصل التنسيق الأمني مع المحتل الإسرائيلي، في صورة لا تعرف معها هوية الضحية والجلاد التي امتزجت في هذا الموقف، إذ تمتلئ سجون السلطة الفسلطينية في رام الله بعشرات المعتقلين السياسيين بتهم متعلقة بمقاومة الاحتلال.
اتهام سياسي
ودائمًا ما تراوح التهم التي يواجهها من يتعرض للاعتقال على أيدي السلطة الفلسطينية بين نشر الفتنة، أو قدح المقامات العليا، وتلك توجه غالباً لنشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وبالنسبة للمنتمين إلى الكتلة الإسلامية في الجامعات أو الأسرى المحررين فهم يواجهون تهماً بالانتماء لتنظيم محظور، أما تهمة تكدير صفو العلاقات الفلسطينية الخارجية فيواجهها أعضاء المقاومة، وغالباً ما تصدر بحقهم أحكام مشددة، وحتى أسر الشهداء والأسرى، والذين يتلقون المساعدات المادية من الجمعيات الخيرية، فيتم اتهامهم بتهم واهية، مثل غسيل الأموال، وللإعلاميين والصحافيين المحسوبين على حركة حماس فُصلت تُهم التحريض.
ويرى الفلسطينيون، المؤدلجون منهم بشكلٍ خاص، والذين دائماً ما تستهدفهم السلطة بحملات الاعتقال، أن الهدف العام للاعتقالات هو حماية أمن إسرائيل، إذ إن استمرار المقاومة الرافضة للاحتلال الإسرائيلي في الضفة، كما هي في قطاع غزة، يتطلب بيئة خاصة للمقاومين، لذا تحاول السلطة عدم السماح بتوفر هذه البيئة عن طريق التتبع الدائم وإجراء التحقيقات المتواصلة مع أبناء فصائل المقاومة، لكي لا ينخرطوا في أعمال من شأنها مهاجمة الإسرائيليين، وما يعضد ذلك القول إن السلطة الفلسطينية تعتقل منفذي أية عمليات مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما حدث في ما عُرف باسم خلية سلواد مؤخراً، كما أن دعوات المقاومة الناعمة من الفاعليات الشعبية والتظاهرات الاحتجاجية على بعض الإجراءات القمعية، والتي تتخذها إسرائيل أو السلطة الفلسطينية في الضفة، تسبقها حملات اعتقال قوية لكبح جماحها، وترتفع وتيرة تلك الاعتقالات أيضاً عند إجراء انتخابات طلابية في الجامعات لتقويض الأنشطة الطلابية، والتأثير على مرشحي الكتلة الإسلامية في الجامعات لصالح طلاب موالين للسلطة.
التدخل الإسرائيلي لا يخفى على أحد في مباشرة السلطة التحقيقات مع المعتقلين، فالتنسيق الأمني الممارس بين السلطتين في أعلى مستوياته، فملفات معتقلي السلطة تمرر بسهولة للجانب الإسرائيلي، كما أن الجانب الإسرائيلي حال فشله في تتبع وملاحقة واعتقال نشطاء بعينهم، تتكفل السلطة بهذا الدور بدلاً عن الإسرائيليين، وأحياناً يتم تسليم معتقلين للجانب الإسرائيلي إما بصورة مباشرة، كتسليم 30 معتقلاً من معتقلي سجن بيتونيا إلى الجانب الإسرائيلي في أبريل/نيسان من عام 2002، أو بصورة غير مباشرة كالإفراج عن المعتقل بالقرب من حاجز لجيش الاحتلال ليكون متاحاً اعتقاله بسهولة كبيرة من الجانب الإسرائيلي.
معاملة قاسية للمعتقلين
أما عن المعاملة التي يلقاها هؤلاء المعتقلون في سجون السلطة، فهم يتعرضون لمعاملة قاسية أثناء التحقيقات، حيث سُجلت آلاف حالات التعذيب للمعتقلين تشتد وتخبو بين فترة زمنية وأخرى، وتتوزع بين التعذيب النفسي والجسدي، فخلال شهر أغسطس/ آب الماضي وحده سُجلت نحو 12 حالة تعذيب.
حتى إن المرضى من المعتقلين لا تراعى ظروفهم الصحية، فعلى سبيل المثال يروي شهود عيان أنه عند احتياج معتقل لعملية جراحية، ينقل ساعات محدودة لإجرائها بمشفى خارجي ويعاد إلى زنزانته بعد وقت بسيط من إجرائها، حتى قبل تماثله للشفاء من دون أية ملاحظة طبية، وكثيراً ما ترفض أجهزة السلطة إدخال الدواء إليهم إلا لو كان على حساب أسرهم، وأثناء التحقيقات تستخدم تلك الأمراض كأوراق ضغط وتعذيب بالضرب على الأماكن المصابة.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن أكثر من 10 معتقلين قضوا نحبهم تحت التعذيب الشديد، أبرزهم حالات مجد البرغوثي من رام الله، وفادي حمادنة من نابلس.
سجون أجهزة السلطة ومراكزها الاعتقالية المتراوحة بين 36 و40 منشأة، على اعتبار أن لكل محافظة من محافظات الضفة الإحدى عشرة مركزاً يتبع لأجهزة المخابرات والأمن الوقائي والاستخبارات العسكرية، فضلاً عن تفرع مواقع احتجاز أخرى في القرى الكبيرة والبلدات، وأحياء المدن الكبرى كالخليل ونابلس، إلا أن غالبيتها إن لم يكن كلها تفتقر لأدنى متطلبات الظروف الإنسانية والصحية، فغرف الاحتجاز تفتقر للضوء والتهوية، وخالية من المراوح في الصيف ووسائل التدفئة في الشتاء، كما تنقُص فيها الأغطية ويمنع أحياناً كثيرة استخدام دورات المياه.
آليات التحقيق
لأن لكل معتقل قصته، باشرتُ بنفسي متابعة أوضاع بعض الطلاب والصحافيين، والذين تم اعتقالهم من قبل السلطة الفلسطينية بسبب نشاطهم، أحد هؤلاء هو الصحافي لدى وكالة شهاب الفلسطينية، عامر أبوعرفة، والذي اعتقل وحقّق معه بسبب عمله في الوكالة ونشاطه على موقع فيسبوك، فبعد اقتحام منزله وتفتيشه ومصادرة أجهزة الكمبيوتر والكاميرات وبعض الأوراق والبطاقات الشخصية الخاصة به، من دون إذن قضائي، بوشر التحقيق معه، ودارت أسئلة التحقيق حول كيفية إرساله الأخبار، وإن كان هناك من يساعده في الضفة ومقدار راتبه، وأيضاً سبب نشره خبراً من إحدى الوكالات حمل عنوان اجتماع الكابينت الفلسطيني، وانتقاده استخدام هذا المصطلح بالتحديد. وبعد أيام من الاعتقال، أفرج عنه ليتلقى تهديداً آخر في نفس الليلة من مصدر مجهول، وأكد في نهاية حديثه معي أن الحياة في الضفة بالنسبة لمعارض للسلطة أصبحت أصعب ما يكون، إذ خلقت الحالة الأمنية المتضخمة حالة من الخوف والقلق الشديدين بين المعارضين، وصلت إلى حد الخشية من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهنا أسرد قصة أخرى لألوان التعذيب التي تعرض لها بعض الشبان، فالطالب في جامعة النجاح الوطنية، عوني مازن الشخشير، البالغ عمره 25 عاماً، بدأت جولاته مع التعذيب في أروقة سجون السلطة منذ لحظة وصوله إلى مقر المخابرات في مدينة بيت لحم يوم اعتقاله بتاريخ 18 يونيو/ حزيران الماضي، إذ تم تقييد يديه للخلف بفاصل بين اليدين 10 سم تقريباً، كذلك جرى رفعه من يده على أحد أبواب غرف المقر، ليسبب ذلك له آلاماً حادة في الكتفين واليدين لتحملها كل ثقل الجسم، وأكد الشاب أن ذلك كان يصحبه أحياناً الضرب بالعصي وكابلات الكهرباء، والركل واللكم والصفع على الوجه، والذي ترك آثار كدمات في جسده، إضافة إلى سيل من الشتائم والتوبيخ، وخلال أسبوع من شهر رمضان كان يتم سحبه على كرسي بتقييد يديه إلى الوراء، وإجلاسه على كرسي، وتكون رجلاه مربوطتين برجلي الكرسي، كما كان يتم حرمانه من النوم، ويجري فكه ساعة واحدة فقط، وهي وقت الإفطار.
نشر هذا التقرير لأول مرة في ملحق جيل بصحيفةالعربي الجديد