في متابعتي للعمليات البطولية في الضفة والقدس المحتلتين أتذكر العمليات الاستشهادية التي كانت فصائل المقاومة الفلسطينية تفاجئنا بها من حين إلى آخر، أتذكر في ذلك الوقت حينما كنا نسأل مباشرةً عن عدد الضحايا من قتلى وجرحى وعن القوة التدميرية للعملية، ونربط نجاحها بكثرة عدد الضحايا وما تخلفه من دمار نفسي لدى الصهاينة.
اليوم، وفي ضوء ما يحدث على الأرض التي باركها الله تعالى، أصبحنا راضين بجرح مستوطن أو اثنين أو دهس مجموعة من المجندين والمجندات حتى ولو لم تقع إصابات خطيرة، المهم أن تبقى جدوة المقاومة متقدة وأن يظل حلم شباب اليوم هو نفسه حلم شباب الأمس وتقديم النفس والنفيس من أجل تحرير الأرض المقدسة.
هذا الرضا هو ليس تراجعًا في منسوب آمالنا أو قلة الثقة في شبابنا هناك، ولكننا أصبحنا متيقنين بأن هذه العمليات وعلى بساطتها تخلف دمارًا نفسيًا كبيرًا لدى الصهاينة المحتلين، وتجعلهم يعانون الأمرين يوميًا منذ طلوع الشمس وحتى غروبها، بل حتى وهم داخل البيوت المغتصبة لا يهنؤون بأكلهم ونومهم.
هؤلاء الشباب الذين نذروا أنفسهم لصالح فلسطين المحتلة سيعيدون ضبط بوصلة الأمة العربية والإسلامية نحو القضية المركزية بعد تيهٍ وضيعان لعدة سنوات في حروب داخلية طاحنة، الرابح فيها بكل تأكيد هو الاحتلال الصهيوني مهما كانت النتيجة.
هؤلاء الشباب جعلوا من هذه العمليات هي الأقوى في تأثيرها وانتشارها، عمليات أخلطت حسابات السياسيين والعسكريين وهم يرون كل خططهم للسيطرة على الوضع تنهار من حولهم، وكأنهم يواجهون جيشًا بكامل عدده وعتاده، يضرب هنا وهناك، لكنه جيش غير مرئي ولا نظامي يمكن التنبؤ بمخططاته.
هذه الهبة الجديدة ستشجع على عودة المقاومة الشعبية الفردية لأوجها بينما تبقى فصائل المقاومة الفلسطينية تجهز نفسها بهدوء لخوض المعارك الكبرى مع جيش الاحتلال الصهيوني، فلكل مقاومة إنجازاتها وأهدافها الاستراتيجية التي تؤدي في الأخير دورًا مهما في دحر جحافل الصهاينة من أرضنا المغتصبة منذ عام 1948.
طبعًا، كأي معركة أخرى مع العدو الصهيوني هناك من يقوم بإشاعة الأخبار المثبطة والأراجيف من قبيل أن هذه العمليات فاشلة ولن تغير أي شيء على أرض الواقع المّر، وأن مثل هذه العمليات ستزيد من شد الخناق على الفلسطينيين في الضفة والقدس، فتجتهد في مثل هذه المواقف السلطة برام الله مع أجهزتها الأمنية لوأد انطلاق أي انتفاضة ويلعبون دور الوسيط الداعي إلى السلام بدل الاصطفاف مع شباب المقاومة الشعبية من أجل استرجاع الحقوق أو على الأقل فرض الشروط لحماية مقدساتنا الإسلامية التي يدنسها المتطرفون الصهاينة صباح مساء.
نعم، في مثل هذه المواقف يعرف الشعب الفلسطيني بالفطرة الجهة التي ينضم إليها حتى ولو كثر عليه التشويش، وهذا الجيل الجديد عرف الطريق نحو التحرير رغم أنه ولد بعد اتفاق أوسلو ونشأ في أحضان مشروع دايتون، ففي الأخير الفصائل الفلسطينية منقسمة إلى طرفين اثنين فقط لا ثالث لهما، الطرف الأول يراهن على المفاوضات والطرف الثاني يجتهد في تحرير الأراضي المحتلة باستعمال مختلف أنواع المقاومة.
فمن يقول بأن هذه العمليات عبثية، نقول له بأن المفاوضات هي العبثية، وأن الاستنجادات المتواصلة لتثبيت عملية السلام الزائفة مع الصهاينة هي العبثية، وأن الآمال المعلقة على أبواب اتفاق أوسلو المشؤوم هي العبثية، فكلنا يتذكر بأن الصواريخ التي انطلقت بدايةً من قطاع غزة المحاصر منذ ثمان سنوات وصفت آنذاك بالعبثية، لكن وبعد تطويرها استطاعت هذه “الصواريخ العبثية” أن تفرض توازن القوة مع المحتل بسبب صدق وإصرار المقاومة على تحقيق هذه الإنجازات النوعية.
كذلك الحال بالنسبة لمثل هذه العمليات المتواصلة في الأجزاء المحتلة، تبدأ بطرق بسيطة لتتطور مع الزمن فتصبح في الأخير قوة لا يستهان بها بين ظهراني الاحتلال الصهيوني، وعلى كل مشكك أن يتخيل إلى أي مدى يمكن أن تصل مثل هذه العمليات النوعية بعد خمس أو عشر سنوات، إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أنه لم يمر إلا أيام قليلة على بدايتها وقد أخلطت كل أوراق حكومة الاحتلال وجعلتها تبدو عاجزة رغم الاضطهاد والقوانين والإجراءات العقابية والوقائية التي أمر بها بنيامين نتنياهو.
إلا أن عمليات الطعن ما زالت متواصلة وتؤثر بشكل كبير على حياة الصهاينة اليومية، خاصةً وأن حتى المناطق الموجودة أمام المربعات الأمنية لم تعد آمنة للمستوطنين، فقد تيقنوا مرة أخرى بأن لا شيء سيحميهم من غضب الفلسطينيين المضطهدين في أرضهم، فمثلًا، إنشاء بوابات إلكترونية عند مداخل المدينة إنما هي طريقة لذر الرماد في العيون، فيمكن للشباب الفلسطيني بكل بساطة تجاوزها باستعمال وسائل حادة من غير المعادن والتي تؤدي إلى نتيجة الطعن بالسكين، أو الاعتماد على عمليات الدهس التي أثبتت نجاعتها في كثير من الأحيان.
طبعًا، هذا كله غير كافٍ لنجاح الانتفاضة الثالثة، فهناك عامل مهم يجب أن يتوفر لنجاحها بشكل كبير، فالإسناد الخارجي مطلوب في مثل هذه الظروف، وأقصد هنا الدعم العربي والإسلامي المتمثل في الحكومات، خاصةً دول الجوار أو تلك التي تتحدث كثيرًا عن دعمها للقضية الفلسطينية، كذلك الإسناد مطلوب بشكل أساسي من الشعوب العربية والإسلامية التي لا تملك أي عذر للتخلي عن الشعب الفلسطيني المظلوم لوحده ومصيره في هذه المعركة التي تهمنا جميعًا، فالمسيرات والمظاهرات والفعاليات أصبحت ضرورة طارئة لرفع المعنويات وإعادة الثقة إلى كل الشباب الذين ما زالوا يقفون في المنطقة الرمادية.
ففي الأخير هذه جولة أخرى من حرب المسلمين مع الصهاينة الذين اغتصبوا أرضنا ودنسوا مقدساتنا ويحاولون شيئًا فشيئًا تغيير معالم الوضع القائم على الأراضي المحتلة، وساعدهم في ذلك تواطؤ بعض الدول العربية وسكوت غالبيتها، أما لسان حال الشعوب فيقول: “لا نرضى بغير طرد المحتل وإعلان القدس – كل القدس – عاصمة أبدية لفلسطين الحرة سواء طال الزمن أو قصر، فهم يرونه بعيدًا ونحن نراه قريبـًا”.