اكتشفت شركة إيني الإيطالية واحدًا من أكبر حقول الغاز في المتوسط قبالة السواحل المصرية، حيث قدرت الاحتياطي في حقل زُهر المصري بحوالي 30 تريليون قدم مكعب، وهي أخبار أثارت التشاؤم بالطبع في إسرائيل التي كان اكتشاف حقل ليفياثان فيها في 2010، وهو الأكبر آنذاك، دافعًا لها لتصبح رائدًا من رواد الغاز في منطقة شرق المتوسط التي ظلت حتى ذلك الوقت بلا منافس، وهي ريادة تلكأت فيها تل أبيب على ما يبدو كما قال وزير طاقتها، لتصدمها أخبار حقل زُهر منذ أشهر بعد أن كانت على وشك تصدير غازها لمصر نفسها.
لماذا أثار ذلك الخبر الكثير من التشاؤم في إسرائيل؟ لأن صادرات مصر التي انخفضت بقوة عام 2012 يمكن أن تعود كمنافس لطموحات إسرائيل في منطقة تعاني فيها من العزلة النسبية، فاتفاقية الغاز بين إسرائيل والأردن على سبيل المثال والبالغة قيمتها 15 مليار دولار، قد تعزف عنها الأردن وتتجه لمصر بدلًا من الاستمرار في اتفاق مثير للجدل كما هي عادة الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل في العالم العربي، والتي يفضل الحكام العرب أحيانًا تفاديها ولو كانت علاقاتهم السياسية بإسرائيل جيدة.
يختلف الأمر بالطبع بالنسبة لفلسطين، والتي دخلت هي الأخرى في مفاوضات للحصول على الغاز الإسرائيلي، وذلك لأن فلسطين تعتمد بشكل كامل على إسرائيل في تلبية احتياجاتها من الطاقة، علاوة على أن جزءًا من أراضيها أصلًا واقع تحت الاحتلال بشكل لا يعطيها سياسيًا القدرة أو السيادة للاتجاه للخارج، والغزايون ليسوا استثناءً، فهم أيضًا يستوردون غازهم من عسقلان في جنوب إسرائيل لمعالجة أزمة الكهرباء في القطاع، وهو اعتماد مطلق على إسرائيل يعني عدم قدرة الفلسطينيين في الضفة أو غزة على بسط السيادة بما يكفي لاستغلال حقول الغاز التي يملكونها أصلًا (حقل مارين قبالة شواطئ غزة وحقل رنتيس في الضفة.)
أزمة الطاقة الفلسطينية
مثلها مثل الأردن، تضررت فلسطين من هبوط صادرات الغاز المصري منذ بضعة أعوام، لتلجأ بالكامل لجارها الإسرائيلي لتلبية حاجاتها من الكهرباء مباشرة بدلًا من بناء أو تشغيل محطاتها، فمحطة الكهرباء الوحيدة الفاعلة في الأراضي الفلسطينية هي التابعة لشركة غزة لتوليد الطاقة في قطاع غزة، وهي تولد 10% فقط من كاقة احتياجات الفلسطينيين من الطاقة رُغم أنها لا تخدم سوى أهل غزة، وهي تستخدم الغاز الذي تستورده غزة من إسرائيل بالطبع.
خلال هذا الصيف، قامت السلطة في غزة بترشيد الكهرباء لثماني ساعات يوميًا، إلا أن الكهرباء انقطعت في الواقع لفترات أطول مع استخدام المكيفات في الصيف، ليظل 70% من القطاع في أغلب الأوقات بدون طاقة، حتى أن البعض يتصل بالسلطات لزيارة أهله للتأكد من توافر الكهرباء لتشغيل المصاعد، كما اضطر آخرون للإفطار في رمضان بوجبات باردة، كما يروي كاتب زار القطاع خلال الصيف الماضي.
يعزو كثيرون أزمة الكهرباء في غزة إلى سوء إدارة محطة الكهرباء الموجودة فيها، فعلى الرغم من كون الشركة المالكة لها شركة خاصة، إلا أن السلطة الفلسطينية قد تولت توريد الغاز لتشغيلها بعد اكتشاف حقل غاز مارين، والذي يقدر الاحتياطي فيه بـ1.4 تريليون قدم مكعب، وهو السبب الرئيسي أصلًا في تشغيل المحطة عام 2000، إلا أن أحلام الاكتفاء الذاتي من الطاقة اصطدمت بالهيمنة الإسرائيلية نتيجة فشل السلطة الفلسطينية في استغلال الحقل نظرًا للقيود التي تفرضها إسرائيل عليه، وهو ما دفع السلطة للاتجاه نحو شراء الديزل، الأغلى من الغاز بمرتين أو أربعة (وفق أسعار السوق) لتشغيل المحطة.
ليس غريبًا إذن أن تكون ديون الشركة 360 مليون دولار نتيجة سياسات السلطة الفلسطينية تلك، وهي ديون لم تمنع انقطاعات الكهرباء المتكررة وأسعارها المرتفعة، فالسلطة الفلسطينية تضطر إذن لشراء الديزل من مصادره في إسرائيل عبر علاقاتها بالمفتوحة بإسرائيل، ثم تبيعه لشركة غزة بعد إضافة ضريبة تُقدر بحوالي 40%، علاوة على بعض التكاليف التي تقول الشركة أنها مُجحفة، وهو ما تبرره السلطة بالضرائب المرتفعة التي تفرضها إسرائيل بدورها على الديزل المُباع للسلطة في الضفة.
تلك الضغوط المالية لم تجبر الشركة على تشغيل المحطة بشكل جزئي فقط، وبالتالي تزويد الكهرباء لعدة ساعات قليلة في اليوم، بل وأثرت أيضًا على تخصيص أية أموال لتطوير المحطة نفسها وآليات توصيل الكهرباء وجمع الفواتير، وهي منظومة شديدة السوء والبدائية حتى أن بعض التقديرات تقول بأن الفواتير التي لم تتمكن الشركة من تحصيلها قد تصل لـ860 مليون دولار، ويُضاف لكل ذلك بالطبع عدم القدرة على إصلاح الضرر الذي سببته حرب إسرائيل في يونيو 2014، والتي دمرت حاويات الغاز وأجزاء من شبكة توزيع الكهرباء.
بين حقل مارين وخط عسقلان
للخروج من تلك المعضلة التي تقع على رؤوس الغزاويين بالأساس، والذين خرجوا للشوارع احتجاجًا الصيف الماضي، وافقت السلطة الفلسطينية على تطوير خط غاز من عسقلان لمحطة الكهرباء في غزة بتمويل قطري، وهي خطة قدمتها الدوحة بالفعل لإسرائيل، فبوجود مصدر غاز متصل مباشرة للمحطة يمكن بسهولة تلبية كافة طلبات القطاع من الغاز، وهي خطة تفكر فيها إسرائيل جدًا وستوافق عليها في الغالب، ورُغم أن ذلك يزيد من اعتماد فلسطين على الطاقة الإسرائيلية، إلا أن حماس لا تمانع للخروج من مأزق الكهرباء بالقطاع، لا سيما وأن التعامل سيكون مع شركة إسرائيلية خاصة وليس مع الدولة مباشرة.
قد يبدأ الفلسطينيون إذن في جني فوائد تخوّف إسرائيل من عودة الغاز المصري، والتي ستسمح، للمفارقة، باستغلال حقل مارين الموجود في غزة، وهي مسألة قد تستغرق حوالي عامين ونصف، ورُغم أن ذلك الحل سيظل مرهونًا بسيطرة نسبية لإسرائيل، إلا أنه مرة أخرى سيتم عبر القطاع الخاص والشركات الإسرائيلية، لا عبر الدولة الإسرائيلية مباشرة، وهو ما يعتبره كثيرون أمرًا مضمونًا أكثر من التعامل مع تل أبيب والتي قد تقطع الإمدادات لأسباب سياسية بين ليلة وضحاها.
رُغم ذلك تم توجيه انتقادات كثيرة لتعميق الاعتماد على إسرائيل بهذا الشكل، فخط عسقلان سيُستَخدَم لنقل الغاز القادم من حقل مارين علاوة على إمكانية مده إلى الضفة عبر إسرائيل، وهو ما يعني أن الغاز القادم إلى كل من غزة والضفة سيمر عبر الأراضي الإسرائيلية، إلا أن المسؤولين في كل من الضفة وغزة يدافعون عنها بقوة عن تلك الاتفاقيات رُغم الاعتماد على إسرائيل نظرًا لكونها المخرج الوحيد المقبول، والذي يمكن أن يحقق اكتفاءً من الطاقة بشكل كامل، وهو نموذج قد تسعى الضفة أيضًا لتطبيقه على حقل رنتيس في الضفة.
في هذا الوقت إذن تتقدم حلول الأزمات الاقتصادية اليومية للفلسطينيين التي يحتم فيها التعامل مع إسرائيل، على حساب التمسك بالمواقف السياسية والبحث عن مخرج يؤدي لتوافق فلسطيني بين السلطتين في القطاع والضفة أو اتفاق جديد شبه مستحيل بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبينما يستمر حكم السلطتين في غزة والضفة إلى أجل غير معلوم، يبدو وأن إدارة الحياة اليومية للواقعين تحت حكمهما ستصبح أولولية ليستطيع كل منهما الحفاظ على حد أدنى من الرضا العام.
حين سُئل أحد مسؤولي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية عن تعزيز الاحتلال الإسرائيلي بتلك الصفقات، قال ببساطة “نعم أنا أعرف ذلك، ولكن الناس يريدون الحياة،” وهي إجابة لم تختلف كثيرًا عن تلك التي قدمها مسؤول من مسؤولي حماس في غزة، والذي قال “إنه أمر إنساني، وهي قواعد الجغرافيا على أي حال، فالعدو يمتلك الغاز.”
اكتشاف حقل زُهر إذن قد يؤدي، ليس فقط لتعزيز وضع مصر على مستوى لعبة الطاقة بشرق المتوسط (مفترضين أنها استغلت إمكانيات الحقل بالفعل،) بل وسيؤدي بشكل غير مباشر لحل أزمة الطاقة الفلسطينية على المدى القصير بإبداء تل أبيب لمرونة في تزويد غزة بالطاقة خوفًا من بحث الفلسطينيين عن الغاز المصري، وحتى ولو أدى ذلك لتعميق الاعتماد الفلسطيني على تل أبيب على المدى البعيد، فلا أحد يفكر الآن في المدى البعيد بينما تؤكل الوجبات باردة وتتعلق المصاعد وتتوقف المكيفات في الصيف، والكل هنا سواء؛ المقاومون والخانعون.
هذاالمقال منقول بتصرف من فورين أفيرز