قبل أيام قليلة اجتمع الأعضاء الثماني والعشرون لحلف الناتو لاجتماع طارئ على خلفية الانتهاكات غير المقبولة للمجال الجوي التركي، حيث أعلن الأمين العام للحلف يِنس شتولتنبرج احتجاج الحلف على الحوادث المتكررة من جانب الطيران الروسي الذي حلق عدة مرات فوق الأراضي التركية، في حين أعلنت تركيا من اتخاذها التدابير اللازمة ضد تلك الطائرات في المستقبل، وهو احتكاك بين القوتين حذر منه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، “لو كانت تركيا قد اتخذت رد فعل مناسب لأسقطت تلك الطائرات، وهي مسألة حذرنا منها ونعبر عن قلقنا الشديد تجاهها.”
على الرُغم من تلك التحذيرات، لا يبدو أن الروس قد تأثروا كثيرًا للتراجع عن خطواتهم تلك، والمقصودة في الغالب كما يشير محللون عدة كنوع من إرسال رسالة تهديد لحلف الناتو عن طريق العضو الأهم على الحدود السورية وهو تركيا، وهو ما دفع بالأتراك بالفعل إلى إسقاط إحدى طائراتهم بدون طيار أول أمس، بعد أن اخترقت المجال الجوي التركي، دون الإعلان رسميًا عن كونها طائرة روسية لتجنب أي تدهور سياسي في العلاقات بين أنقرة وموسكو، وهي طائرة تبرأت منها موسكو.
بوضع تصريحات موسكو الرسمية بأن كافة طائراتها عادت لقواعدها سالمة جانبًا، لا يبدو أن أحدًا يشك أن الطائرة روسية بالفعل، فقد تطابقت الطائرة في مواصفاتها مع الكثير من طائرات الاستطلاع بدون طيار التي تستخدمها روسيا، وهو ما أكدته مصادر عسكرية تركية ولبنانية رُغم التصريح التركي الرسمي بأن الطائرة مجهولة الهوية، حيث قال رئيس الأركان التركي بأن الطائرة روسية الصنع من النوع أورلان-10، ليقوم مركز بطرسبرغ التكنولوجي الروسي بإنكار تلك التصريحات التركية.
يعرف القاصي والداني بالطبع أن تركيا تستطيع إسقاط أي طائرة تدخل مجالها الجوي بسهولة نظرًا لقوة قواتها الجوية وانتمائها لحلف الناتو الذي تتمتع بنظام دفاعه الجوي، وهو ما يعني أن قرارها غض الطرف عن تلك الحوادث المتكررة في مقابل التدخل أول أمس هو بمثابة رسالة لموسكو بأن صبرها قد نفد بخصوص تلك المسألة، لا سيما وأن تلك الطائرات الروسية قادمة بالأساس لضرب رصيد تركيا الاستراتيجي في سوريا، والذي تراكم بتقدم المعارضة السورية في مدن عدة مثل حلب، التي يحاول جيش الأسد دخولها منذ الأمس بمساعدة الطيران الروسي.
في نفس الوقت، وفي ثنايا تلك الرسالة، كانت الرغبة التركية بعدم الدخول في صدام مفتوح مع روسيا واضحة، فالطائرة التي يعلم الجميع أنها روسية بالفعل رُغم إنكار روسيا، لم تشر لها مصادر تركيا الرسمية إلا بكونها طائرة مجهولة، وذلك باستثناء تصريح رئيس الأركان المتعلق بالجانب التقني من المسألة، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو بنفسه، حيث قال بأن التدخل ضد الطائرة كان تدبيرًا ضروريًا لحماية المجال الجوي التركي، ولا يؤثر على العلاقات بين أنقرة وموسكو.
المساحات الواسعة بين الأتراك والروس
أردوغان وبوتين في أنقرة في آخر زيارة رسمية
خيط رفيع إذن تحاول تركيا الحفاظ عليه باحتواء صديقها الجديد في موسكو، والذي اقترب منه أردوغان مؤخرًا ووقع معه على اتفاق لنقل الغاز للبلقان عبر تركيا واليونان (مشروع توركش ستريم)، في نفس الوقت الذي يزداد فيه تنافرهما حيال الملف السوري الحيوي لتركيا وأمنها القومي، والضروري من ناحية أخرى لاستمرار تواجد الروس في البحر المتوسط والتأثير على معادلات الطاقة بالشرق الأوسط كما أشارت تحليلات عدة، وهو خيط يهم تركيا أن يظل ممدودًا مهما تعرض لصغوط لأسباب كثيرة، لا سيما وأنها تعرف أن انتهاكات مجالها الجوي لم تكن رسالة روسية لتركيا بقدر ما كانت رسالة لحلف الناتو وقياداته في واشنطن وبروكسل.
عدا ذلك، ومن زاوية العلاقات التركية الروسية الثنائية فقط، فإن الطرفين يبدوان في حاجة إلى بعضهما بعيدًا عن ملف سوريا، فالروس لا يمكنهم تعويض الفراغ الذي تركته دول الاتحاد الأوروبي بمقاطعتها اقتصاديًا بعد الأزمة الأوكرانية سوى بالسوق التركي، كما أن توتر الأوضاع في أوكرانيا وتعنت دول أوروبا في تعميق روابط الطاقة مع موسكو يعني أن مشروع الغاز عبر تركيا، وإن لم يبدأ العمل فيه بعد، مسألة مهمة لجذب دول البلقان غير العضوة بعد بالاتحاد الأوروبي عبر تركيا كقوة قائمة بذاتها لكسب جزء على الأقل من سوق أوروبا والاستمرار في الضغط من موقع آخر بجنوب شرق القارة.
من ناحية أخرى، تحتاج تركيا إلى علاقات جيدة مع الروس نظرًا لعلمها بأن دورهم في سوريا وأوكرانيا على السواء، مهما تنافر استراتيجيًا مع دورها، إلا أنه يظل مسألة حتمية جغرافيًا وتاريخيًا، وهو ما يعني عدم جدوي تصعيد الخطاب والتوتر مع موسكو، بالإضافة إلى أن التباعد في الرؤى بين أنقرة وواشنطن مؤخرًا نتيجة دعم الأخيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني يعني أن هناك مساحة بين الأتراك والروس بإمكانية إبعاد تركيا لموسكو عن أكراد سوريا بتصويرهم كرأس حربة للتدخل الأمريكي، وهي صورة كفيلة بإبعاد موسكو عنهم كما تحاول أنقرة أن تفعل بجهودها الدبلوماسية، أملًا ألا يحصلوا على دعم مضاعف مهما اشتد دعم الروس الحتمي للأسد.
الحفاظ على القنوات التركية الروسية مفتوحة إذن أمر يهم تركيا بشكل عام للحفاظ على علاقاتها الجديدة مع الروس، وبشكل خاص لحماية القدرة على التأثير على الموقف الروسي نفسه داخل سوريا، والذي يمكن أن يصل لدعم الروس للأكراد إذا ما وقع صدام مفتوح بينهما بالفعل، علاوة على أن الطرفين سيجلسان في نهاية المطاف مع إيران والغرب لرسم خارطة سوريا الجديد عاجلًا أم أجلًا كما يعرفان، وهو ما يعني عبثية خلق توتر سياسي و/أو عسكري في هذه اللحظة في صراع ليس صفريًا على الإطلاق.
أيضًا، لا بد وأن الأتراك يأخذون في الاعتبار التنسيق العسكري المتنامي بين الروس وإسرائيل، فالأخيرة وإن توترت علاقاتها بأنقرة في هذه اللحظة، إلا أن رغبتها في استخدام التقارب مع روسيا لإحداث تباعد نسبي بين الموقفين الإيراني والروسي في سوريا قد يهم الأتراك للخروج مستفيدين من تحجيم دور الميليشيات الإيرانية، وهي ميليشيات قد تقوّض من الدور التركي على المدى البعيد بجانب تهديدها لإسرائيل، في حين سيبقى الدعم العسكري الروسي النظامي محدودًا في أثره نتيجة غياب دور متغلغل له على الأرض مثل طهران، وهو ما يعني مرة أخرى أن هناك مساحة جديدة بين الأتراك والروس لاستخدام التقارب مع إسرائيل في الضغط على التواجد الإيراني بجنوب سوريا.
في نهاية المطاف، ومع وجود كل تلك المساحات بين الأتراك والروس، كما جرت العادة على مدار تاريخهما، رُغم التضاد الاستراتيجي التقليدي بينهما، تظل هناك أيضًا ميزة تقليدية لتنامي الدور الروسي في الجوار التركي، وهو أنه يستدعي دومًا حاجة الأوروبيين لتركيا لإحداث توازن ضروري مع موسكو، بشكل يستتبع اقتراب أوروبا من تركيا ودعم الغرب لها عسكريًا وسياسيًا، وهو ما حدث بالفعل بعد أيام من بدء الحملة الروسية، حيث اتجه أردوغان في زيارة رسمية لبروكسل لأول مرة منذ بضعة أعوام، كما تنتظر تركيا ظهر اليوم المستشارة الألمانية أنغلا مركل التي تتسم علاقات بلادها مع أنقرة عادة بالتوتر نتيجة رفضها لعضويتها بالاتحاد الأوروبي.