أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في مصر عن أرقام أولية لنسب المشاركة في آخر انتخابات برلمانية مصرية تجري اليوم وغداً، وتعتبر هذه الانتخابات هي أول انتخابات برلمانية منذ انقلاب الثالث من يوليو العسكري في مصر، وتأتي بعد سلسلة من التأجيلات غير المبررة وحالة من القلق من عدم اقامتها من الأساس نتيجة لتصريحات من رئيس الانقلاب العسكري عبدالفتاح السيسي أن سلطات البرلمان المصري تم وضعها في الدستور بـ”حسن نية”.
وتعتبر هذه الانتخابات ثالث حالة انتخابية تتلو الانقلاب العسكري في مصر بعد كلاً من الاستفتاء على الدستور وانتخابات الرئاسة التي أتت بعبدالفتاح السيسي، وتتسم هذه الانتخابات لأول مرة منذ فترة طويلة بغياب فصيل شديد الأهمية في الخريطة البرلمانية المصرية؛ وهو فصيل الإخوان المسلمين تحديداً، فبالرغم من التضييقات في عدد من الانتخابات في عصر مبارك؛ إلا أن الإخوان لم يسبق لهم أن غابوا عن الساحة البرلمانية تماماً بهذا الشكل، ويأتي هذا ضمن حالة عامة من غياب حدة المنافسة الحقيقية بشكل عام من هذه الانتخابات مقارنة بأي انتخابات أخرى في الأربعين سنة الأخيرة.
كانت النسب المعلنة من قبل اللجنة مفاجئة إلى حد كبير، إذ تقول اللجنة أن نسبة من توجهوا للتصويت ممن لهم الحق في التصويت في مصر لم تتعدى 1.2%.
كما تظهر تفاصيل الرقم المزيد من النسب الأكثر غرابة، إذ وصل تعداد المصوتين من النساء إلى أربع أضعاف المصوتين من الرجال، كما كانت شريحة المصوتين فوق سن 61 عاماً ذات نصيب الأسد من عدد المصوتين بنسبة 42% من المصوتين، وتلتها الشريحة من 41 إلى 61 عاماً بنسبة 26% والشريحة من 31 إلى 40 عاماً بنسبة 20%، مما يعني أن نسبة المصوتين من 18 إلى 30 عاماً لم تتخطى 12% من المصوتين، حيث يقدر عدد المصوتين من سن 18 إلى 21 عاماً ب268 ناخباً فقط حتى إصدار الأرقام.
تبدو النسب السابقة شديدة الغرابة عند النظر إلى كون الشريحة السكانية التي يبدأ عمرها من 18 إلى 30 عاماً والتي شاركت ب12% فقط في التصويت تمثل نسبة وقدرها 30% من سكان البلد، كما أن الشريحة فوق 61 عاماً والتي مثلت 42% من المصوتين هي في الواقع أقل من 7% من السكان.
كما أن زيادة عدد المصوتات عن المصوتين بمقدار 4 أضعاف هو شيء شديد الغرابة في قاعدة سكانية لا فارق يذكر فيها بين تعداد الذكور والإناث.
لا يمكن تفسير الأرقام الغريبة السابقة من دون الرجوع إلى بعض السمات الثقافية والاجتماعية المصرية، السمة الأولى هي القناعة العامة بانتماء المرأة إلى مجال المنزل والأسرة؛ المجال المحلي لا المجال العام كأماكن العمل وغيرها، ويظهر هذا جلياً في بعض الأرقام، إذ لا تعدى مشاركة المرأة في قوة العمل المصرية 24% في مقابل 76% للذكور، كما يمكن تعداد الإناث المشاركات في البرلمانات والحكومات السابقة كقلة بسهولة شديدة.
والسمة الثانية هي محورية التقاعد الوظيفي في حياة الأفراد، إذ يمكن بسهولة ربط الشريحة السكانية من 61 عاماً وما فوق ذلك بنهاية المسار الوظيفي بشكل عام، إذ حتى يومنا هذا تظل الوظيفة الحكومية هي المسار الوظيفي الأوسع انتشاراً وتقديراً خصوصاً بين أهل الطبقات الوسطى في مصر، ومعنى انتهاء المسار الوظيفي عند سن الستين عند أغلب الموظفين في ظل غياب مجتمع مدني قوي يستوعب عدد المتقاعدين المتزايد يعني بالضرورة توجه عدد كبير منهم للمشاركة في الشأن العام بشكل أو بآخر، بالحديث على المقاهي أو باجترار الصحف الحكومية أولاً بأول.
حقيقة الأمر أن الممارسة السياسية في مصر هي ممارسة تنفصل بالأساس عن الحياة اليومية، أدت كلاً من البيروقراطية المركبة والمركزية الشديدة إلى إظهار عدم مشاركة الدولة بشكل مباشر في مسائل الحياة اليومية للمواطنين، فالمواطن أثناء انشغاله بالعمل في أكثر من وظيفة أو توفير القدر الكافي من المال لدفع رشوة ما لا يبدو أنه يربط بين هذا وبين الممارسة السياسية في البرلمان نيابة عنه، إذ تحولت الممارسة السياسية إلى مهنة وحرفة تحتكرها طبقات معينة في المجتمع لديها العلاقات والأموال والخبرات الكافية لممارستها بالشكل الحالي.
وواقع الأمر أن شبكات المصالح من سياسيين محترفين ورجال أعمال وموظفين ذوي مناصب راسخة في الدولة لا تؤمن بالمشاركة الشعبية الحقيقية في اتخاذ القرار السياسي، وإنما هي تحتاج فقط إلى تأييد علني يضفي على هذه الممارسة السياسية نوعاً من الشرعية الجماهيرية، ويبدو أن الشرائح السكانية التي لا تعاني من ضغط مباشر على المشاركة في مقترع الحياة اليومي؛ والتي لديها بعض الوقت الفارغ هي التي تستطيع القيام بهذا الدور بكفاءة، إذ يسمح تفرغها واقصائها عن مجال الحياة اليومية والاقتصادية خصيصاً لها بالتحول إلى سياسيين هواة؛ أو مشجعين سياسيين محترفين، وتكسب عملية التشجيع تلك الممارسة السياسية شرعية جماهيرية مطلوبة لتظهر كعملية ديموقراطية.
وعلى الناحية الأخرى، تظهر الشرائح السكانية الأقل سناً والأكثر اندماجاً مع معترك الحياة اليومية وكأنها تفتقد لأي نوع من الاهتمام بالحياة السياسية في الانتخابات الأخيرة، وهذه سمة على العكس تماماً من ما حدث في الانتخابات والاستفتاءات التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير، إذ يبدو أن الثورة قد أظهرت لوهلة إمكانية إعادة إدماج الممارسة السياسية مع الحياة اليومية للناس بشكل تصبح فيه الديموقراطية أكثر تمثيلاً ومباشرة.
إلا أن الواضح أن انتصار مؤسسات الدولة والجيش على الثورة في الثالث من يوليو قد أكد على ترسيخ شكل السياسة والديموقراطية الذي اعتاده من هم فوق الستين من عمرهم، شكل السياسة الذي لم يعهدوا غيره على طول حيواتهم الممتدة إلا لسنوات قصيرة جداً بعد 2011، وهو ترك السياسة لأهلها ودعمهم من قبل المشجعين؛ واندماج الجماهير مع حيواتهم اليومية المفرغة من الممارسة السياسية والانشغال بكسب لقمة العيش.