انطلق السباق الانتخابي البرلماني في مصر أخيرًا وبعد طول انتظار من القوى السياسية والمجتمعية القديمة والحديثة التي تدور في فلك النظام المصري الجديد، والتي كانت تنتظر إشارة البدء فقط من رئيس الجمهورية الحالي عبدالفتاح السيسي الذي ربما اضطر لإجراء هذه الانتخابات على غير رغبة منه.
لكن على أية حال تلقت القوى السياسية المشاركة في الانتخابات أدورها وأعدت القوائم الانتخابية وتجهز المرشحون في كافة الدوائر الجغرافية، وأُعلنت خريطة مبدئية لهذا الصراع الانتخابي الدائر، حيث قائمة في حب مصر المدعومة من الرئاسة والتي يُتوقع أن تتناغم مع سياسة السيسي في حال حصولها على الأغلبية، وقوائم أخرى مدعومة من رجال أعمال الحزب الوطني المنحل أثارت الجدل مؤخرًا إثر التوتر الحادث بين رجال الأعمال والسيسي، إذ اتهمها موالون للنظام بمحاولة الانقضاض على البرلمان لمقاسمة السيسي السلطة.
أما الطرف الثالث في هذه المعادلة المشاركة في انتخابات البرلمان الأول الذي يأتي بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي على الرئيس السابق محمد مرسي في الثالث من يوليو 2013، طرف محسوب على التيار الإسلامي في مصر وهم “سلفيو حزب النور” الذين باركوا تحركات الجيش ضد الرئيس السابق، ويأملون الآن في تحقيق تواجد داخل هذا المجلس بمباركة من السيسي نفسه.
على النقيض الآخر تقف الغالبية العظمي من تيارات الإسلام السياسي رافضةً لهذه الانتخابات من الأساس معتبرين إياها صادرةً عن سلطة غير ذي شرعية انقلبت على الرئيس المنتخب ، داعين إلى مقاطعتها، لم تقف التيارات الإسلامية وحدها في هذا المربع الرافض للانتخابات الداعي إلى مقاطعتها، ولكن على غير ترتيب تقاطعت مواقف تيارات فكرية أخرى مع موقف التيارات الإسلامية.
فقد صرح محمد البرادعي المدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية ونائب الرئيس المصري السابق عقب الانقلاب العسكري عبر موقع “تويتر” قائلًا: “لنتذكر: كانت الدعوة منذ ٢٠١٠ لمقاطعة الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاءات وغيرها من صور الديمقراطية الشكلية وسيلة فعالة للتغيير”.
وأردف قائلًا في تغريدة أخرى: “مانديلا مرة أخرى في السياسة والأخلاق: عندما تتخلي عن طريق أو فكرة خاطئة يكون الانسحاب نوعًا من القيادة”.
لنتذكر: كانت الدعوة منذ ٢٠١٠ لمقاطعة الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاءات وغيرها من صور الديمقراطية الشكلية وسيلة فعالة للتغيير.
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) September 10, 2015
مانديلا مرة اخرى فى السياسة والاخلاق : عندما تتخلي عن طريق او فكرة خاطئة يكون " الانسحاب نوعا من القيادة".
— Mohamed ElBaradei (@ElBaradei) September 10, 2015
لم يكن موقف البرادعي بعيدًا عن مواقف حزب مصر القوية ورئيسه عبدالمنعم أبوالفتوح الذي قرر مقاطعة الانتخابات ترشحًا وتصويتًا، كذلك كان موقف التيار الشعبي وزعيمه حمدين صباحي الذي رفض إجراء الانتخابات على هذا القانون “المعيب” من وجهة نظره، بالإضافة إلى حزب الدستورالذي أعلن عدم المشاركة في الانتخابات بشكل رسمي نافيًا المقاطعة بعدم ممانعته لترشح أي من أعضائه كمستقلين بعيدًا عن الحزب، هذا علاوةً على مقاطعة بعض الحركات الشبابية لهذه الانتخابات مثل حركة السادس من أبريل.
تلك التيارات السياسية أطلقت نداءات مختلفة للمقاطعة بأسباب متباينة، قابلها النظام بدعوات دينية للنزول إلى الانتخابات حيث برزت فتاوى شرعية من مقربين للسلطة المصرية تعتبر التصويت في الانتخابات واجبًا شرعيًا يأثم من يقاطعها أو يمتنع عن التصويت، كذلك لم يتوانى التيار الإسلامي المعارض عن الرد بفتاوى مضادة تجرم شرعًا المشاركة في هذه الانتخابات.
بعيدًا عن هذه الدعوات والدعوات المضادة جاء الواقع في أول يوم من تصويت المصريين بالخارج يؤكد أن ضعف الإقبال على الانتخابات هو ملمح اليوم الأبرز، حيث جاءت تصريحات البعثات الدبلوماسية المصرية المشرفة على الانتخابات في الخارج مؤكدةً لهذا الأمر، إذ صرح السفير وائل جاد سفير مصر في دولة الإمارات أن الاستعدادات التي تمت كانت تنتظر أعدادًا أكثر من ذلك وتوقع زيادة نسبة المشاركين في اليوم التالي، نفس الحال في دولة لبنان أكده السفير محمد بدر الدين سفير مصر في لبنان أن أعداد المصريين الذين أدلوا بأصواتهم كانت قليلة للغاية، كذلك جاءت تصريحات سفراء مصر في دولتي الجزائر وتونس اللذين أكدا أنه لم يكن هناك إقبالًا على التصويت.
جاء اليوم التالي الذي انطلقت فيه الانتخابات في الداخل المصري لتؤكد اللجنة العليا للانتخابات مسألة ضعف التصويت وعزوف الناخب المصري عن المشاركة في هذه الانتخابات، إذ أعلنت اللجنة أن نسبة المشاركة بلغت حتى الثانية عشر ظهرًا 1.19%، وبعد ذلك أعلنت أن النسبة ارتفعت لتتخطى 2%، وهي نسب ضئلية للغاية مقارنةً بـ 27 مليون ناخب مصري لديهم حق التصويت في هذه المرحلة الأولى.
وسط هذه المقاطعة الظاهرية للانتخابات التي لم تُحدد أسبابها إلى الآن، خرجت أصوات النظام على الفضائيات مهاجمة قطاع الشباب متهمين إياه برفض المشاركة في الانتخابات، حيث جاءت الأرقام الأولية من اللجنة العليا للانتخابات تتحدث عن ضعف شديد في مشاركة الفئات العمرية من سن 18: 30 عامًا، في مقابل ارتفاع مشاركة الفئات العمرية الأكثر من 61 عامًا.
لا يستطيع أحد الجزم بسبب حالة الإضراب هذه التي فوجئ بها الجميع في هذه الانتخابات، على عكس الإقبال النسبي قبل ذلك في الاستحقاقات التي سبقت هذه الانتخابات، والتي كانت على ضعفها تظهر النظام بمظهر المساندة الشعبية، أما هذه المرة فمنذ بداية اليوم الأول للانتخابات سادت حالة من التجاهل لها بين المصريين.
بالطبع سيُرجع أنصار المقاطعة الفضل لحملاتهم في هذه الحالة، لكن ثمة محللين رأوا أن هناك حالة من الإحباط أصابت قطاعًا كبيرًا من المجتمع المصري، خاصةً مع حالة التردي الاقتصادي التي أصابت البلاد، والوعود البراقة التي تطلقها الرئاسة المصرية دون أي صدى على أرض الواقع.
هذا بالإضافة إلى عودة وجوه نظام مبارك إلى تصدر المشهد من جديد في الانتخابات الحالية، والتي أعادت إلى أذهان كثير من المصريين صور عهد تزوير الانتخابات والنتائج المحسومة سلفًا قبيل ثورة 25 يناير، لذلك آثر البعض في المجتمع تجاهل هذه الحالة برمتها لا سيما مع غياب بديل معارض يحظى على ثقتهم بعدما خنقت السلطة المجال العام بشكل كبير.
بينما علق متابعون في اتجاه آخر متحدثين عن كون هذه النسبة المنخفضة من الحضور سينجح النظام في استخدامها لصالحه، خاصةً وأن هذه الانتخابات لم تكن على هوى كافة أركان النظام، إذ ستظهر الانتخابات شعبية الرئيس أمام انتخابات البرلمان الهزيلة، ما يمكن معه طرح فكرة تعديل الدستور بقوة أكثر يستطيع السيسي من خلاله تحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي مطلق يتم فيه تهميش البرلمان بحجة عدم وجود قاعدة شعبية له، وهو الأمر الذي سيكسر هيبة هذا البرلمان أمام السيسي إذا ما حدث صدام بينهما.