ترجمة وتحرير نون بوست
مخزن وول مارت لبيع قطع التجزئة عانى من أسوأ يوم له منذ نحو 30 عامًا في يوم الأربعاء الماضي، بعد أن أصدرت الشركة توقعات سوداوية حول أرباح الشركة، ففي الوقت الذي توقع فيه المحللون نموًا متواضعًا يبلغ 4% خلال السنة المالية المقبلة، توقعت النشرات الاقتصادية لمخزن بيع التجزئة الهائل انخفاضًا في النمو يتراوح ما بين 6 إلى 12%.
إحدى الطرق لمعاينة وتحليل هذا الاتجاه تتمثل بالقول إن أسباب تراجع وول مارت معقدة للغاية، حيث توقع العديد من المحللين لسنوات بأن وول مارت، وهو أكبر متجر بيع تجزئة في العالم، سوف يتعثر، وعلى عكس التوقعات خدمت الأزمة المالية وول مارت بشكل رائع، حيث عززت من سمعته كمخزن يبيع بضائعه بأسعار رخيصة؛ مما استقطب المتسوقين من غير الأغنياء، ولكن مع تعافي الاقتصاد على المدى الطويل، طفقت رغبة متزايدة بين المتسوقين لتجربة البضائع التي تعد أكثر تلبية لاحتياجاتهم، فلا شيء يبدو متناقضًا مع عصر البضائع المحددة والمفصّلة وفق رغبات الزبائن أكثر من وول مارت؛ فمثلًا خفّضت التجارة على شبكة الإنترنت هوامش ربح وول مارت، كما استطاع منافسو هذا المتجر، كشركة تارجت، تحقيق أرقام مبيعات مبهرة، وعلى الرغم من أن الشركة قاومت النقابات العمالية، إلا إنها اضطرت لرفع حزم رواتب موظفيها، مما خفّض بعضًا من ميزتها التنافسية.
إذن هذه إحدى الطرق التي يمكن من خلالها فهم ما يعانيه وول مارت، ولكن إذا أردنا أن ننظر إلى الأمر من وجهة نظر خبراء الإدارة، لا يجب علينا أن نعتمد على نظرة كلايتون كريستنسن، ولا بيتر دراكر، ولا حتى صن تزو، المنظر العسكري الصيني الذي ذاع صيته مؤخرًا في وول ستريت، بل إن الرجل الذي يجب أن نأخذ برأيه عائد إلى القرن الـ14، وهو أحد علماء وفلاسفة المسلمين في شمال أفريقيا، إنه ابن خلدون، الذي درج البعض على تسميته بمؤسس علم الاجتماع، ومن خلال تطلعاته يمكن القول بأن ابن خلدون توقع بأن ما حدث ويحدث في وول مارت كان لا مفر منه عمليًا.
“الإمبراطوريات تشيخ وتضمحل خلال ثلاثة أجيال”، حذّر ابن خلدون، وعلى الرغم من أن نظريته تحكم ملكيات الصحراء التي حكمت في وقت مبكر من التاريخ الحديث، ولكن يمكن تطبيقها بسهولة على وول مارت، علمًا بأن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استخدام نظريات ابن خلدون بغية فهم الاقتصاد الأمريكي، فالرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وهو أحد معجبي ابن خلدون، استشهد به لدعم سياسات جانب العرض، إلى حد استثار استياء العلماء المعاصرين.
يقسّم ابن خلدون الإمبراطوريات وممالك الحكم إلى ثلاثة أجيال، في الجيل الأول، يؤسس الإمبراطورية أشخاص أقوياء من البدو الخام، متعطشين للسلطة، مترابطين معًا بشكل وثيق، ويعملون بحذر وترقب، حيث يمتشقون سيوفهم الحادة، ويُخشى من هجومهم، ويتقهقهر جيرانهم، وفي الجيل الثاني، تبقى الأمور جيدة، وحينها تحوز الممالك على السيطرة والثراء، وتتحول من حياة البداوة إلى حياة الاستقرار، ومن حياة العسر إلى حياة اليسر والوفرة، ولكن العلاقات الوثيقة للقرابة والأسرة والتي كانت سببًا في مرونة الإمبراطورية بادئ ذي بدء، تباشر بالتآكل والانهيار، فيبدأ الحكام بتوظيف المدراء والمرتزقة من الخارج للحفاظ على إمبراطوريتهم، ويعولون بشكل متزايد على البيروقراطية، وهذا الجيل يشهد ذروة مجد الإمبراطورية، ولكن في الحقيقة، الأمور تميل حينئذ إلى الركود رويدًا رويدًا، وفي الوقت الذي يظهر فيه مورث المملكة قويًا ومتماسكًا من الخارج، يكون الحكم في الداخل في أدنى درجات هشاشته وتفككه.
في الجيل الثالث، تصبح الإمبراطورية أقرب للانهيار، فالجيل الثاني من المملكة ترعرع في بحبوحة من أمره، ولكن مع ذلك تم تربيته من قِبل أهالي الصحراء الأقوياء الذين أسسوا الإمبراطورية، أما الجيل الثالث، فإنه لا يعرف شيئًا سوى القصر، ولا يمتلك ذات روح المغامرة، ولا يرقى إلى نماذج أجداده، فتنطفئ لديهم الروح الوطنية تمامًا، ويفقدون الجرأة للمقاومة أو للدفاع أو للهجوم، ولكنهم بذات الوقت يفرضون سلطتهم على الشعب من خلال التنمر وقوة الزي الرسمي والفرسان المسلحين.
أجيال ممالك ابن خلدون تتطابق بشكل غريب مع قصة وول مارت، فخذ مثلًا سام والتون، وهو الأب المؤسس لسلالة وول مارت، والمنطقة الأمريكية المرشحة التي تشابه صحراء المملكة العربية في مراحل حداثتها المبكرة، هي بنتونفيل أركنساس، وهي بلدة ريفية تتمتع بعدد سكان لا يتجاوز الـ3000 نسمة عندما افتتح سام والتون أول متجر له هناك، ولكن والتون كان مراوغًا، حكيمًا، ومفمعًا بالطاقة، وحوّل هذا المتجر الصغير إلى سلسلة ضخمة، ساحقًا منافسيه الأشد رسوخًا في السوق، وهي الشركات التي رضيت عن أدائها مما أدى إلى تراخيها مع مرور الوقت، مثل كي مارت، ، وفعلًا عند وفاة والتون في عام 1992، كان وول مارت أكبر متجر لبيع التجزئة في الولايات المتحدة.
تحت حكم الجيل الثاني من عائلة والتون، وصل وول مارت إلى ذروته مع إيردات مذهلة وصلت إلى 486 مليار دولار وفق آخر إحصاء، والأسرة تصرفت أيضًا بشكل جيد، فأربعة أعضاء من الجيل الثاني أصبحت تقدر ثروتهم بما لا يقل عن 30 مليار دولار، رغم أن الورثة فقدوا 11 مليار دولار في هبوط أسهم وول مارت يوم الأربعاء الماضي.
ولكن كما توقع ابن خلدون، أضحت الأسرة تعتمد في تسيير أعمالها على المرتزقة، أو كما نسميهم في اللغة الحديثة “رجال الأعمال”، ورغم أن هؤلاء أغدقوا على الشركة الكثير من الأموال، إلا أنهم قادوها في بعض الأحيان إلى مناحي عمل متهورة، حيث أقرت وول مارت بتسببها بجرائم بيئية دفعت عشرات الملايين لتسويتها، كما أن التحقيق الذي تم افتتاحه لتقصي فيما إذا عمدت الشركة إلى دفع الرشاوى في الخارج كلّف الشركة تقريبًا 500 مليون دولار، وفي أعقاب هذا التحقيق اضطرت الشركة لتسريح العديد من المديرين التنفيذيين رفيعي المستوى، كما اتجه أفراد الأسرة إلى مناحٍ بعيدة عن إدارة وول مارت، بما في ذلك مناحي العمل الخيري والفني.
الآن، وبالتزامن مع هبوط أسعار الأسهم، باشر الجيل الثالث من عائلة والتون باستلام زمام الأمور، فهذا الصيف، تسلم جريج بينر، حفيد سام والتون، رئاسة مجلس إدارة الشركة، واليوم تكافح وول مارت لترويض البيروقراطية والتقليل من المستويات الإدارية المتعددة التي تخنق الشركة، وذلك في الوقت الذي يستمر فيه منظمو العمل بمهاجمة وول مارت لتنمرها على العمال من خلال فرض سلسلة أجور عليهم تعد أدنى من الأجر المقبول، وذلك تمامًا كما وصف ابن خلدون الجيل الثالث من الطبقة الحاكمة بالتطفل والتنمر.
إذن، هل مخطط ابن خلدون حول انهيار السلالات الحاكمة يعني بأن الموت مقدر على وول مارت؟ في الحقيقة إن شركات، كشركة كي مارت وسيرز، لا تقدم بالتأكيد سوابقًا مشجعة لنفي هذه الاعتقاد، وفي الوقت الذي يتم فيه توريث حوالي 40% من الأعمال التجارية المملوكة للأسرة إلى الجيل الثاني، يتم تمرير حوالي 13% فقط أو نحو ذلك من أعمال الشركة إلى الجيل الثالث، ولكن بذات الوقت يوجد استثناءات ملحوظة في هذا المجال، وأحد هذه الاستثناءات تتمثل بشركة فورد، التي استفادت بشكل كبير من قيادة المديرين التنفيذيين الخارجيين، رغم استلام الجيل الرابع للعائلة لرئاسة الشركة، وإحصائيًا، تشكل الشركات العائلية “المملوكة للعائلات” حوالي 19% من الشركات الـ500 في قائمة فورتشن العالمية، ولكن علينا الإقرار بأن هذه النسبة مدعومة بشكل كبير بنمو الاقتصادات الأسيوية حيث تميل الشركات هناك لتتم إدارتها من قِبل العائلات والأسر.
لحسن الحظ، وول مارت ليست غافلة عن التحدي الذي يواجهها، حيث بدأت بمحاولات لجعل الشركة أكثر مرونة، من خلال إدخال المتاجر الصغيرة، بناء حضورها ضمن مجال التجارة الإلكترونية، وتخزين بضائع جديدة ومحلية، ولكن مع ذلك، بعض تحركات الشركة قد توحي باستمرار المشاكل في المستقبل، فكما يقول أحد المحللين، إعادة شراء الأسهم المخطط لها من قِبل الشركة، هي خطوة قد تحمل في طياتها فألًا محتملًا للمزيد من الأخبار السيئة.
أخيرًا، وفي حال تبين في نهاية المطاف بأن ما يحصل حاليًا هو نقطة تحول سلبية بالنسبة لوول مارت، فإن هذا سيمثل انتصارًا آخر يحققه ابن خلدون بعد أكثر من 600 سنة من وفاته، ولكن الأنماط ليست نبوءات، وكلام ابن خلدون يقدّم تحذيرًا لأولئك الذين يفترضون بأن وول مارت لا يمكنها البقاء على قيد الحياة، حيث يقول “العديد من الأخطاء التي ارتكبها المؤرخون والمعلقون والتقليديون الرائدون في رؤيتهم للأحداث، نجمت عن تعويلهم على التقليد فحسب”.
المصدر: ذا أتلانتيك