الصليب المصنوع من الفضة الذي يرتديه شربل حول عنقه، كان يتألق أثناء إمساكه ببندقيته الكلاشنيكوف وتصويبها نحو نافذة منزل مهجور عبر الزقاق الضيق.
باعتباره أحد أعضاء فريق البحث المؤلف من حوالي دزينة من المقاتلين، قام شربل مع الميليشيات المسيحية بتمشيط البلدة المهجورة بالقرب من مدينة تل تمر في محافظة الحسكة في شمال شرق سورية، وكان الهدف اليوم هو البحث في القرية عن المسلحين الإسلاميين، الذي قد يكونوا تخلفوا عن ركب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعد انسحابه خارج المنطقة منذ نحو أسبوع.
حوالي 100 أسرة كانوا يعيشون ضمن هذه المدينة ذات الأغلبية المسيحية، قبل أن يشن أعضاء الدولة الإسلامية هجمة للسيطرة على المنطقة في أواخر فبراير الماضي، حيث قام مسلحو التنظيم باختطاف أكثر من 200 مسيحي، واضطر الآلاف من المدنيين للنزوح جرّاء الهجوم القاتل، حتى وصلت القوات التي يقودها الأكراد، وبدعم من قوات التحالف والضربات الجوية الأمريكية، استطاعوا إجلاء الجماعة من المنطقة في أواخر مايو المنصرم.
تحت قيظ حرارة شمس بعد الظهر الحارقة، دخلت الميليشيات المسيحية إلى البيوت من خلال النوافذ المكسورة، كسروا الأبواب، وأبطلوا مفعول العبوات الناسفة المزروعة في البيوت، ورغم أنهم لم يتمكنوا من العثور على المتشددين الذين كانوا يبحثون عنهم أصلًا، ولكنهم عثروا على العديد من الأشياء الأخرى المثيرة للاهتمام، مثل الأجهزة المنزلية، الملابس، مستقبلات الأقمار الصناعية، قوارير الغاز، أجهزة التلفزيون، وآلات صنع القهوة، فقاموا بأخذ جميع ما يمكنهم استخدامه.
أثناء رفع ثلاثة من المقاتلين للغسالة إلى الجزء الخلفي من الشاحنة الصغيرة التي تنتظرهم، قال أحدهم ضاحكًا “هل نأتي بالمزيد؟ هل يوجد لديك مساحة كافية؟”، ووضع بعدها غلاية للماء وشاشة الكمبيوتر على المقعد الخلفي للشاحنة، بالتزامن مع جلوس قائد الوحدة بهدوء في مقعد السائق، مشرفًا على رجاله من خلال مرآة الرؤية الخلفية.
حماة الأقلية المسيحية؟
ينتمي هؤلاء المقاتلون إلى المجلس العسكري السرياني، قوات حرس الخابور، وقوات حرس سوتورو.
الميليشيات السريانية، سوتورو، والمجلس العسكري السرياني، تم تأسيسهم بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية، وهم جزء من منطقة سلطة الإدارة الذاتية الكردية، ويتعاونون بشكل وثيق مع المقاتلين الأكراد والأجهزة الأمنية التي تسيطر على شمال شرق البلاد، علمًا أن المجلس العسكري السرياني هو تنظيم عسكري، بينما أعضاء سوتورو هم عبارة عن مقاتلين يحمون المدن ويحرسون نقاط التفتيش.
قوات حرس الخابور هي ميليشيا آشورية محلية، عملت على وجه الحصر تقريبًا في المناطق التي يسكنها الآشوريين حول تل تمر، ويبدو أن بعضًا من قوات حرس الخابور يعملون في تحالف وثيق مع المجلس العسكري السرياني، حيث يرتدون شعار المجلس، ويتم تمويلهم وتسليحهم من قِبله أيضًا، وذلك بعد أن تم حل قوات حرس الخابور بعد بضعة أشهر من سقوط قائدهم ضحية لعملية اغتيال.
عند التحدث إلى وسائل الإعلام، تركز الميليشيات السريانية بشكل كبير على احترام قانون الحرب والقيم الإنسانية، “نحن لا نمتلك روح المقاومة، نحن مسيحيون علمانيون، ولا نحب العنف”، قال آشور أبو سرغون، القائد العام لقوات سوتورو سابقًا، للصحفيين الأجانب خلال لقاء في مقر الميليشيا في مدينة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة في أكتوبر من العام الماضي.
ملكي رابو، المتحدث باسم سوتورو، يتفق مع ما قاله أبو سرغون، ويوضح بأن سوتورو تأسست في أواخر عام 2012 لحماية الأقلية المسيحية في سورية، وللانتفاض ضد النظام.
وفقًا لرابو، النظام الداخلي لسوتورو يركز على حماية الشعب وتحقيق حقوقهم ومطالبهم، ومع ذلك، يشير إلى أن ميليشيات سوتورو لا تسترشد بالفكر الديني، حيث يقول: “بالطبع نحن لا ننسى الله، ولكننا نعتقد بأن إظهار الرحمة هو أكثر أهمية من التدخل الحربي”.
السرقات تتم بعلم قادة المليشيات
رابو يشرف على نقل البضائع المسروقة عبر نقطة تفتيش سوتورو في تل تمر، وبعد عودة سيارتي بيك آب لتوهما من عملية بحث أخرى، أصبح الرصيف أمام الحاجز يشبه سوقًا مفتوحًا للبضائع المستعملة، وأثناء قيام مقاتل من المجلس العسكري السرياني باللهاث وهو يحمل شاشة تلفزيون إلى المبنى، يقول أبو جيما وهو ينظر مطولًاً إلى التلفاز المسروق: “ما الذي استغرقكم كل هذا الوقت الطويل؟ هل هذا كل شيء؟”، ولكن بعد هنيهة يصبح سؤاله غير ذي معنى مع دخول المزيد من رجال الميليشيات مع مسروقاتهم.
“لا أعرف ما هو هذا الشيء، لكن يمكن أن يكون له علاقة بالنفط وبداعش”، يصرخ ماهر، أحد أعضاء سوتورو من مدينة القامشلي في محافظة الحسكة، أثناء رفعه لمفتاح ربط فوق رأسه.
رجال الميليشيات يحملون الأغراض الصغيرة كلوحات الكمبيوتر، مجموعات أواني الشاي، وشاشات الكمبيوتر إلى الساحة الأمامية، ولكن الأغراض الكبيرة كالغسالات، والميكروويف، مجموعات أغطية عجلات السيارة، تجد لها مكانًا في نهاية المطاف في الجزء الخلفي من الحافلة الصغيرة التي تنقل البضائع إلى مستودع للحزب.
وقبل أن يسمح للحافلات بالمغادرة، يعمد رابو لتفتيش الأكياس التي يحملها كل مقاتل بدقة.
80 دولارًا في كل شهر
اعترف عدد من أعضاء المجلس العسكري السرياني وسوتورو لصحيفة الميدل إيست آي بأن الميليشيات مارست عمليات السرقة في مناسبات عديدة، ووفقًا للمقاتلين، فإن معظم عمليات السلب والنهب وقعت في المدن ذات الغالبية المسيحية في جميع أنحاء مدينة تل تمر السورية، ولكن أحد أعضاء المليشيات أخبرنا أيضًا بأن مقاتلي المجلس العسكري السرياني سرقوا مجوهرات من المنازل اليزيدية حول جبل سنجار في شمال العراق.
على الرغم مما تقدم، لا يتفق جميع رجال الميليشيات على صحة عمليات السلب والنهب، “إن مصطلح (عملية بحث) هو مجرد كلمة أخرى مرادفة للسرقة والسلب والنهب، ولكن هذا لا يعني بأن هذا الأمر صحيح” يقول مقاتل شاب من سوتورو في تل تمر، طلب عدم الكشف عن هويته، وتابع متسائلًا: “لماذا يجب أن يتم تفتيش القرية عدة مرات بعد تحريرها؟ من الواضح أن الأمر لا يتعلق سوى بالمال”.
أوضح المقاتل بأن بعض رجال الميليشيات بحاجة لدخل إضافي من أجل إطعام أسرهم، فالراتب الشهري الذي يبلغ حوالي 80 دولارًا بالشهر، يعد متدنيًا للغاية وفق المقاييس السورية.
“كثير من الأشخاص يعملون معنا فقط لأجل الراتب، ورغم أن المبلغ لا يسد الرمق، ولكنه أفضل من لا شيء، لأنه لا يوجد أي عمل آخر”، قال فادي خورية، أحد أعضاء سوتورو، وتابع مؤكدًا أيضًا بأن عناصر الميليشيات ليسوا متورطين جميعًا في عمليات السلب والنهب، حيث قال: “أصابع اليد الواحدة تختلف عن بعضها البعض، وكذلك أعضاء سوتورو، أعمالهم ستؤدي إلى تشويه سمعة منظمتنا، وآمل أن تتم محاسبة الجناة”.
القادة يتعامون عن التجاوزات
بعد مواجهته بالحقائق من قِبل صحيفة الميدل إيست آي، أوضح كينو جبرائيل، المتحدث باسم المجلس العسكري السرياني، بأنه تم تشكيل لجنة داخلية للتحقيق في الأحداث، ووفقًا لكينو، أي مخالفات محتملة يمكن أن تُعزى فقط إلى بضعة أفراد معزولين، “المجلس العسكري السرياني يلتزم بالقيم السريانية وقيم الشعب المسيحي، وما حدث يتعارض مع القيم والمبادئ التي ندافع عنها، ونؤمن بها، والتي نشأنا عليها”، قال كينو.
والجدير بالذكر هنا، بأنه وبعد يوم من هذا اللقاء، انتقدت قيادة سوتورو والمجلس العسكري السرياني جميع الاتهامات في بيان صحفي مشترك لهما.
أحد قادة سوتورو ممن هم على اطلاع على التحقيقات الداخلية التي تجري ضمن المنظمة، أكد لصحيفة الميدل إيست آي بأن عناصر مليشيات سوتورو والمجلس العسكري السرياني نهبوا عدة قرى في منطقة تل تمر، ولأسباب أمنية طلب عدم الكشف عن هويته.
وفي الوقت الذي أكد فيه على قيام المليشيات بنهب المنازل المسيحية، أكد قائد ساتورو الذي لم يفصح عن اسمه بأن معظم عمليات السلب والنهب حدثت في بيوت العرب المتعاونين مع داعش، ولكن مع ذلك لم تعترف قيادة الميليشيات علنًا بوقوع أي عملية سرقة من قبلها، ويشرح القائد ذلك قائلًا: “إذا اعترفنا علنًا بعمليات السرقة، فسنُسأل عن جميع عمليات السلب والنهب التي تمت في المنطقة، ونحن لا نرغب بمساءلتنا عن الانتهاكات والسرقات التي ترتكبها عناصر قوات الحماية الكردية، الـYPG، وداعش”.
أوضح القائد أخيرًا بأنه ليس قلقًا حول توصيف سرقة منازل المتعاونين المزعومين مع داعش بأنها جريمة حرب، حيث يقول: “بصراحة، لو كان الأمر بيدي، لكان يمكن للعناصر أيضًا أن يكتبوا عبارات تلعن داعش على جدران منازل المتعاونين مع التنظيم، أو حتى حرق منازلهم وتسويتها بالأرض”.
المصدر: ميدل إيست آي