في المقال السابق انطلقنا من تساؤل عن كيف يجتمع نقيضين في حالة أزمة متفاقمة، كيف يجتمع انخفاض الطلب على الإسكان مع بقاء الأسعار مرتفعة وغير مناسبة لأغلب السكان في مصر، وقد كانت الإجابة اختصاراً أن الأزمة نوعية وناتجة عن سببين؛ الأول قرار واعي من الدولة بعدم التدخل وترك اختيارات رجال الأعمال المتعلقة بهوامش الربح تقود السوق، والثاني هو أن الثقافة السكانية المصرية هي ثقافة تملكية بالأساس، أي أن عملة الإيجار لا تحتل صدارة السوق العقاري بشكل كبير؛ ونتج عن هذا عن تحويل العقار كمساحة آمنة لتخزين القيمة والاستثمار الزائف عوضاً عن المشاركة الفعلية في الإنتاج.
في هذا المقال ننطلق من التساؤل الذي أنهينا به المقال السابق؛ أين دور الدولة في قلب هذه الفوضى؟ وهل حل هذه الأزمة وترتيب هذه الفوضى من مصلحة كيان الدولة المصرية ودوائر المنتفعين منها بداية؟
بداية يجب النظر إلى مجموعة من المعلومات التي تربط الدولة المصرية بعملية الإسكان لنستطيع تقييم الوضع بشكل أوضح.
تنص المادة 78 من دستور 2014 في مصر على أن ” تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية”. أي أن الحق في السكن حق دستوري لكل مواطن مصري؛ وأن الدولة هي المسؤول الأول والأخير عن ضمان هذا الحق لكل مواطن على حد سواء.
ويمكن فهم ذلك إذا عرفنا أن الدولة المصرية ممثلة في أجهزتها الأمنية والوزارية هي المالك الأكبر للأرض في مصر، إذ أن كل قطعة أرض لا يوجد إثبات أو صك ملكية فرد لها فهي تصبح ملكاً للدولة بشكل تلقائي.
لا تتوافر أرقام واضحة عن مقدار ما تملكه أجهزة الدولة المختلفة من الأرض في مصر، إلا أننا نعرف مثلاً أن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان هي أكبر مالك لأراضي البناء في مصر؛ إذ تملك وحدها قرابة أربعة آلاف كيلومتر مربع من أراضي البناء؛ أي أربعة تريليون متر مربع؛ أربعة ملايين مليون متر مربع.
كما ولا يجب أن ننسى القوات المسلحة المصرية ووصايتها شبه الكاملة على كافة أركان الدولة، إذ يكفل القانون المصري الحق للجيش المصري بوضع يده على أي أرض مملوكة للدولة بلا مقابل ولا مسائلة “تنفيذاً لخطة الدفاع عن الدولة”، ويشرف على استخدام هذه الأراضي ما يعرف بـ”جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة” والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ويذكر أن الأخيرة كانت هي المسؤول عن ما يعرف بمشروع المليون وحدة سكنية الذي أطلقه عبدالفتاح السيسي بالتعاون مع الإمارات، وغني عن الذكر أن المشروع يقوم بالأساس على قيام الهيئة الهندسية بتوفير 160 مليون متر مربع من أراضي الدولة لشركة آرابتك الإماراتية بالمجان مقابل أن تتحمل الشركة تكلفة الإنشاءات.
إذا أضفنا السابق إلى المشاركة السياسية المتزايدة لرجال الأعمال في السياسة المصرية بداية من مرحلة الانفتاح الاقتصادي وحتى وصولها لذروتها في نهاية عصر مبارك؛ نستطيع أن نأخذ في الاعتبار بداية التعامل مع الدولة ورؤوس أموالها كشركة تهدف للربح وتيسير مصالح عملاءها من كبار رجال الأعمال.
وبهذا الشكل تحديداً نستطيع أن نفسر اغفال الدولة المزمن لحقيقة تواجد أزمة سكانية فيما يخص المواطنين الأقل دخلاً في مصر، إذ نرى أن المشكلة طالما تمت رؤيتها من خلال الحلول التي قدمتها الدولة وخطابات رموزها على أنها مشكلة تخص الطبقة الوسطى، وبالتالي كانت الحلول دائماً ما تداعب تطلعات الطبقة الوسطى في تملك الوحدات العقارية كمخزن لمدخرات العمر يمكن بسهولة نقله للأبناء، فنرى حلولاً سكنية في تجمعات صحراوية تفتقد للخدمات وتتمثل في تسهيلات في السداد على عشرات السنوات بعد مبلغ مقدم يقدر بعشرات الألوف من الجنيهات على الأقل.
تغفل الدولة تماماً (أو لا تهتم) أن قرابة نصف سكانها يعيشون على أقل من 10 جنيهات في اليوم، وبطبيعة الحال هؤلاء من الفئة الأكثر استحقاقاً للحق الدستوري في السكن نظراً لعدم قدرتهم على توفيره لأنفسهم.
وباستمرار الدولة في دعم النماذج الاسكانية المبنية على التملك لا الإيجار عبر مشاريعها لا يستطيع المواطن الأقل دخلاً حتى أن يحلم بمكان في هذه الوحدات التي قد يتطلب مقدمها مبلغاً أكثر من مجموع دخله لعدد من السنوات، إذ لا تستطيع الدولة المصرية بكل شبكات المصالح الاقتصادية الفاسدة الممسكة بتلابيبها أن تنظر إلى نفسها سوى كشركة يجب أن تحقق أكبر هامش ممكن من الربح في أقل وقت ممكن مع تقليل التكاليف بأكبر قدر، إلا أن أرباح هذه الشركة لا تذهب لخزانة الدولة أو إلى الشعب بالطبع، وإنما تتشربها شبكة المصالح المذكورة أعلاه من خلال مجموعة من التعاقدات والخدمات المقدمة من رجالها المخلصين، وبهذا الشكل تصبح الدولة أشبه بالمقاول الفاسد الذي يحرك العقود نحو رجاله المخلصين.
ومع استمرار لجوء الدولة المستمر لثروتها الأرضية والمجال العقاري كمحاولة فاشلة للحد من الغرق الاقتصادي الناتج عن غياب أي نوع من الانضباط الاقتصادي والإنتاج الحقيقي؛ تصبح الحقيقة الأوضح أن المناخ العقاري المصري بدأ في الاقتيات على ذاته، إذ يمنع غياب أي نوع من أنواع الاستقرار السياسي والشفافية الديموقراطية استمرار أي تجربة استثمار عالمية في مصر، وتصبح أغلب الوحدات السكنية في مصر إما خارج متناول أيدي الغالبية من السكان، أو تتملكها قلة قليلة جداً من أهل الطبقات العليا والمتوسطة العليا كأموال مجمدة، وتبقى هذه الوحدات المغلقة وغير المستخدمة في الهدف الرئيسي منها وهو السكن كأوضح صورة من صور إهدار الإمكانيات المالية للاقتصاد والمجتمع، وتبقى أيضاً كقنابل اجتماعية موقوتة كأوضح شاهد على غياب العدالة الاجتماعية عن المجتمع المصري، إذا تبقى عشرات الألوف من الوحدات الفاخرة فارغة في انتظار مستقبل يرتفع فيه سعرها؛ بينما تتغذى العشوائيات على النسيج العمراني لقلب وأطراف المدن المصرية بسرعة غير مسبوقة.