يبدو وأن جورج بوش الابن، الرئيس الأمريكي الأسبق، والذي رحل عن البيت الأبيض عام 2008، لم يرحل كليًا حتى اليوم، حيث سار على دربه بشكل أو آخر شخصان مهمان في بلدين من البلدان الأنغلوساكسونية الهامة؛ أستراليا وكندا، غير أن عام 2015 قد كتب نهاية مدرسة بوش السياسية تمامًا، حيث خرج رئيس الوزراء الأسترالي السابق والمثير للجدل طوني أبوت من منصبه بعد خسارته في انتخابات قيادة حزبه، في حين سيخرج خلال أيام رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر هو الآخر من عالم السياسة الكندية، بعد اكتساح الحزب الليبرالي بقيادة السياسي الشاب جاستن ترودو.
تسع سنوات قضتها كندا تحت حكومة هاربر اليمينية المحافظة شهدت فيها التراجع عن اتخاذ الإصلاحات اللازمة لمعالجة تغير المناخ، كما هي عادة اليمين في معظم بلدان الغرب، وبث المخاوف من المهاجرين العرب والمسلمين ومن غطاء الوجه (النقاب) كملمح ثقافي لبعضهم بشكل خاص، ودعم إسرائيل بشكل واضح في السياسات الخاصة بالشرق الأوسط، والمشاركة في قصف داعش كجزء من التحالف الأمريكي بسوريا والعراق.
كل ذلك على موعد مع التغيّر الآن بدخول ترودو للسلطة، والذي وعد الناخبين باستعادة الصورة الليبرالية لكندا التي تمتعت بها تحت حُكم والده، رئيس الوزراء الأسبق بيير ترودو، بعد أن حصل على 40% من أصواتهم، و184 مقعدًا من أصل 338 في البرلمان الكندي تكفيه ليشكل الحكومة منفردًا، بعد أن كانت هناك مخاوف من عدم حصول أي حزب على الأغلبية وبالتالي الاتجاه لمأزق دستوري، لا سيما وأن الحزب الليبرالي حتى بضعة أسابيع مضت لم يكن يُظهر تفوقًا حاسمًا في استطلاعات الرأي.
ترودو، البالغ من العمر 43 عامًا فقط، سيكون ثاني أصغر رئيس وزراء لكندا، كما أنه سيكون ربما صاحب المسيرة السياسية الأقصر، حيث دخل البرلمان فقط عام 2008 بعد أن قرر دخول السياسة آنذاك، وهو قرار سبقته تجارب مختلفة مثل تدريس اللغة الفرنسية، وهي اللغة الرسمية في ولاية كوِبِك التي ينحدر منها إلى جانب الإنغليزية، وتدريس الدراما المسرحية والرياضيات، والعمل مع المبادرات الشبابية، وهي مسيرة شكك الكثيرون فيها أثناء حملته الانتخابية باعتبارها دليلًا على قلة خبراته وعدم قدرته على الاضطلاع بمهام منصبه الجديد.
غير أن الكنديين لم يبالوا بكل ذلك، وقرروا أن إنهاء حقبة هاربر المحافظة أولوية في هذه المرحلة للتخلص من سياساته الاقتصادية اليمينية وسياسته الخارجية المتطرفة، لتنخفض مقاعد حزبه بالفعل من 166 إلى 101 في هبوط ملحوظ، وليخرج هاربر بالكلية من الحياة السياسية الكندية بينما يبدأ حزبه المحافظ في البحث عن قيادة جديدة.
المسلمون والمناخ والسياسة الخارجية والحشيش
أنصار ترودو، من كل الخلفيات الثقافية، يحتفلون بعد إعلان النتائج
من أبرز الملفات التي تجلت فيها الخلافات بين هاربر وترودو هي ملف المهاجرين والمسلمين بشكل خاص، والذين حاول هاربر إثارة الجدل بخصوص حقوق بعض نسائهم في تغطية وجوههن في الأماكن العامة، وهو ما يفسر اتجاه معظم العرب والمسلمين في كندا للتصويت لليبراليين، والذين تعهد ترودو بألا يمس حرياتهم، “نحن نعرف من داخلنا أن من بنوا كندا أناس أتوا من كل أنحاء العالم، واعتنقوا جميع أنواع الديانات، وانتموا لكافة الثقافات، وتكلموا كل اللغات،” هكذا قال ترودو مؤكدًا على استيعاب الجميع في كندا.
“ليس من حق الحكومة أن تشرع أي شيء بخصوص اختيارات المرأة في التصرف بجسدها،” كانت تلك كلمات واضحة قالها ترودو في حملته الانتخابية، لتعزيز موقفه المناصر لحريات المسلمات بشكل خاص، والتي ثار الجدل حولها العام الماضي بعد طرح ميثاق قيم كوِبِك، والذي أرادت بموجبه الحكومة السابقة للولاية تقييد حرية التعبير عن الأديان، مستوحية نموذجًا لضبط الثقافة العامة أشبه بالنموذج العلماني الفرنسي، وهو ميثاق عارضه ترودو بقوة آنذاك كنائب برلماني عن نفس الولاية، وسقط بخروج تلك الحكومة من السلطة وانتخاب الليبراليين في كوِبِك.
علاوة على ملف المهاجرين، تعهد ترودو بانسحاب الجيش الكندي من تحالف الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا والعراق، كإشارة لرفضه خوض المغامرات العسكرية بالخارج والانجرار خلف واشنطن بين الحين والآخر، وتركيز جهود كندا بدلًا من ذلك على تدريب القوات المحلية بالعراق، وكذلك استقبال لاجئين من سوريا، والذين وعد ترودو باستقبال 25 ألف لاجئ منهم، واستثمار 250 مليون دولار من أجل إقامتهم في كندا.
مرة أخرى، وفي إشارة على رفض إقحام كندا في مغامرات عسكرية خارجية، وهو التوجه الذي طالما ميزها عن جارتها الأمريكية في الجنوب في معظم مراحل تاريخها، وعد ترودو بإخراج كندا من برنامج تطوير الطائرات المقاتلة F-35 والذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا إلى جانب ثمانية بلدان غربية أخرى، وتركيز إمكانياتها المالية بدلًا من ذلك في ملف تقديم المعونات لبلدان العالم النامية بشكل عام، لا سيما وأن المعونات التي تقدمها كندا للخارج، وخاصة لأفريقيا، قد تراجعت تحت حُكم هاربر بأكثر من نصف مليار دولار.
الانفتاح على السكان الأصليين لكندا، والذين كانوا موجودين فيها قبل دخول الإنجليز والأوروبيين بشكل عام قبل خمسة قرون، واحدة أيضًا من النقاط المضيئة لبرنامج ترودو، والذي يتضمن بدء تحقيق موسع فيما يخص النساء اللائي اختفين منهن أو تم قتلهن (ونسبتهم كبيرة في كندا مقابل حوادث الخطف والقتل العادية التي تتعرض لها النساء)، حيث لا تزال هناك أعداد منهم في بعض الولايات الكندية وهم ينقسمون لثلاث مجموعات أساسية (ميتي، وإنويت، و”القوميات الأولى” التي تضم غيرهما)، “سنبني علاقة جديدة مع السكان الأصليين على مستوى الشعبين، وسننفق 2.6 مليار دولار كاستثمار في تعليم القوميات الأولى.”
كل تلك الوعود ستحتاج لوقت بالطبع لتنفيذها، غير أن الملف الذي ينتظر الكنديون من ترودو فيه إثبات تحقيقه لوعوده سيحل موعده قريبًا، وهو ملف تناول ملف تغيّر المناخ بإيجابية في قمة باريس المقبلة للمناخ، وهو ملف كان هاربر قد تجاهله تقريبًا ضاربًا بضرورة تقليل الاعتماد على الطاقة غير المتجددة عرض الحائط، بل والانسحاب من بروتوكول كيوتو المعروف، والذي تلتزم بموجبه الدول الموقعة على تقليل الانبعاثات الكربونية الصادرة منها، حيث كانت كندا أول بلد موقع ينسحب عام 2012.
تقنين الحشيش واحدة من القوانين المنتظرة كذلك على قائمة جدول أعمال ترودو الليبرالية، والذي قال أنه سيبدأ في اتخاذ خطوات بصددها فور توليه السلطة منتهجًا نموذج ولاية كولورادو الأمريكية في تقنين الحشيش وفرض الضرائب على تداوله، وملف تقنين الحشيش كما نعرف ينتشر رويدًا في الأمريكتين بشكل خاص، ويظهر بشكل دائم في البرامج الانتخابية الليبرالية، أولًا بدعوى حرية تصرف كل شخص في صحته وجسده، وثانيًا بدعوى وجود استخدامات طبية له.