فاجأ التدخل الروسي الأخير في سوريا الجميع من حيث التوقيت، من حيث الحجم، ومن حيث طبيعة الأهداف التي لم يتأخر القصف الجوي في الإفصاح عنها.
يقول الروس إنهم جاؤوا لوقف زحف تنظيم الدولة في سوريا، بينما يركز قصفهم على مناطق تمركز الجيش الحر وباقي فصائل المعارضة المسلّحة وهو ما ينفيه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي يقول بأن نطاق العمليات الروسية لا يتجاوز التعامل مع داعش وجبهة النصرة، يناقضه في تصريحه هذا الناطق الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي يقول إن كل من يحارب نظام الأسد هو هدف للعمليات الروسية.
في الحالتين لا يحتاج الأمر للكثير من النباهة لنتبين أن الروس جاؤوا لحماية مصالحهم في سوريا ولرفع سقف المفاوضات حول البديل المحتمل للأسد في مرحلة سياسية متقدمة؛ فالروس يدركون أكثر من غيرهم أن النظام السوري لم يعد يملك أيّا من أسباب ومقومات التماسك أو الصمود وبما أن ملفات أخرى أكثر تعقيدًا على رأسها الملف الأوكراني تشغل الروس وتنتظر حلولاً غير كلاسيكية فإن وجودهم في سوريا بشكل أكبر سيصلح ربما لرفع سقف المفاوضات في هذا الملف وفي غيره من الملفات إلا أن الروس ليسوا الوحيدين أصحاب الحسابات والمصالح في أرض الشام؛ فللأطراف الأخرى أيضًا مصالح راسخة تقتضي رحيل الأسد ونظامه بأسرع وقت ممكن، وأكثر الأطراف المتمسكة بهذا النهج على الرغم مما يظهره الروس من التزام بمساندة النظام: السعوديون والأتراك.
لنترك جانبا ما يقال عن استتباعات التدخل الروسي ونلقِ نظرة على ما يجري على الأرض؛ فمعطيات الأسابيع الأخيرة بالمقاييس العسكرية والسياسية تبدو محددة جدًا، فقبل شهر من الآن اطلق جيش الإسلام معركة “الله غالب” وبعد انتهاء المرحلة الأولى من هذه المعركة وقف القائد الشاب لهذا الفصيل العسكري زهران علوش وسط جنوده داخل أحد المواقع الذي كان تحت سيطرة النظام قائلاً “في يوم من الأيام كنا نحلم بالوصول إلى هذه المناطق”.
حُق للقائد الشاب أن ينتشي بما أحرزه طوال الأسابيع الأخيرة من تقدّم على الأرض خاصة بعد سيطرته على أكثر من 25 موقعًا في كل من غوطة دمشق والقلمون الغربي أهمها قيادة الأركان الاحتياطية للنظام السوري بالإضافة إلى إحكام السيطرة على الطريق الدولي حمص دمشق.
لكن النظام السوري يبدو معنيًا بالجبهة الشمالية أكثر من الجنوبية فهو يدفع بكل قوته مدعومًا بالميليشيات الإيرانية نحو حلب في محاولة لكسب معركة نوعية تعيد له ولحلفائه الثقة وتمكنه من استعادة السيطرة على الطريق الدولية حلب دمشق وتقطع المعارضة المسلّحة في حلب عن مركز ثقلها العسكري في إدلب وتبعد عن النظام شبح تمدد المعارضة نحو سواحل البحر الأبيض المتوسط، في هذه المعركة يقوم الروس بمساندة النظام جوًا على الرغم من ذلك لا يحقق النظام أي تقدّم في هذه المناطق، بل أن عكس ما خطط له أصبح أمرًا واقعًا على الميدان؛ فكلما أراد النظام التقدّم كان هدفا سائغًا لصواريخ “تاو” التي أصبحت المعارضة تستخدمها بشكل مكثف جدًا وهو ما كلّف النظام تدمير العشرات من دباباته ومدرعاته في الأسابيع الأخيرة وما كلف أيضًا الميليشيات التي تقاتل الى جانبه الكثير من أبرز قادتها؛ حيث لا تتوقف وسائل الإعلام الإيرانية عن بث بيانات النعي للقتلى الإيرانيين، وما يثير الانتباه فعلاً في هذه النقطة أن جل القتلى من الإيرانيين أو من حزب الله هم من القيادات الميدانية المتقدّمة؛ حيث أعلنت مصادر إعلامية إيرانية قبل يومين مثلاً عن مقتل القائد في قوات الباسيج نادر حميد وقبله بأيام أعلنت عن مقتل العقيد في الحرس الثوري الإيراني مسلم خرساني وقبلهما الجنرال الإيراني فرشان حسومي زادة والقيادي في الحرس الثوري حميد مختار بند ومنذ أكثر من أسبوع القياديين في حزب الله مهدي حسن عبيد وحسن حسين الحاج وقبلهما بأيام أهم قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا اللواء حسين همداني، مع العلم أن إيران وحزب الله سبق وخسرا منذ دخولهما في سوريا الكثير من القيادات المتقدمة أهمهم علي أصغري ومهدي خرساني والجنرال حسن شاطري والرائد محمد حسن عطري والجنرال حسين بادبا والجنرال جبار دريساوي والجينرال أصفر شيردل والجنرال عباس عبد الله والجنرال علي مرادي.
الغريب في هذه المعركة الدائرة منذ أيام أنه في الوقت الذي تخوض فيه كتائب المعارضة المسلحة مجتمعة قتالاً عنيفًا ضد النظام في ريف حلب الجنوبي تهاجمها داعش في ريف حلب الشمالي كما تمنع عنها قوات الحماية الكرديّة أي تقدّم نحو الشمال الكردي لتلقي أطراف أربعة هي النظام وميليشياته من جهة وداعش من جهة ثانية وقوات الحماية الكردية من جهة ثالثة وفوقهم جميعًا الطيران الروسي في تحالف موضوعي ضد تقدّم المعارضة.
قوات الحماية الكردية كانت الوحيدة (وياللمفارقة) التي أشاد الروس بدورها في محاربة داعش إشادة تلتقي مع ما أصبح لدى الأكراد في شمال سوريا من حظوة دوليّة وتلتقي كذلك مع طموحهم إلى إقامة حكم ذاتي ولما لا دولة مستقلة طالما أن رياح الظرف الدولي مواتية جدًا وطالما أن النظام السوري ذا الانتماء العلوي معني جدًا بتغيير التركيبة الديمغرافية السورية بحيث يفقد السنة غالبيتهم لصالح العلويين، وما دَفعُ السوريين السنة إلى اللجوء نحو أوروبا ببعيد عن هذا الهدف.
المتابع لردود الفعل الغربية تجاه التدخل العسكري الروسي سيستنتج رفضًا غربيًا لهذه الخطوة، لكن هذا الرفض لا يبدو حادًا جدًا بالقدر الذي يجعل موسكو تعدل عن فكرة التدخّل كأن بعض القوى الغربية كانت تتمنى ضمنيًا جرّ روسيا إلى الدخول بقوات على الميدان حتى تُستنزف وتضعُفْ، وليس أدل على ذلك من إجابة الرئيس الأمريكي عند سؤاله حول أُفق هذا التدخّل إذ قال “ما الذي ستفعلونه بالضبط، وكيف ستمولونه، وكيف يمكنكم الاستمرار فيه والحفاظ عليه؟”، يتفق معه في هذا الرأي قادة غربيون آخرون يقولون عند سؤالهم عن التدخل العسكري الروسي في سوريا بأنه سوف يفشل وهناك من يقرأ هذه الإشارة على أن دولاً غربية بعينها ستعمل على إفشال هذا التدخل حتى لا يتجاوز الروس الخطوط الحمراء.
هذه القراءة تتقاطع مع إعلان الولايات المتحدة اعتزامها مراجعة برنامج دعم المعارضة المسلحة بما يرفع الحظر عن أسلحة معينة على رأسها مضادات الطائرات، وتتطابق مع البيان المشترك الذي وقعته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وقطر والسعودية وتركيا ضد الضربات الروسية وتتطابق مع ما قاله وزير الخارجية السعودي من أن المملكة ستستخدم كل قوتها لمواجهة ما تعتبره احتلالاً إيرانيًا للأراضي العربية ومن الأكيد أن الروس يعلمون تمام العلم بكل هذه المعطيات والنوايا غير أن أولوياتهم وتقديراتهم للأمور مختلفة.
وسط كل هذا الزخم الدولي حول سوريا تبدو المعارضة السورية في الخارج منقطعة تمامًا عما يحدث في الداخل قاصرة عن التأثير في أي من المعطيات الداخلية أو الخارجية المتعلقة بالملف السوري، ووسط كل هذا الضجيج حول سوريا لا نكاد نسمع لها صوتًا وكأن القيادات العسكرية لفصائل المعارضة السورية هي من تملك المبادرة السياسة فضلاً عن العسكرية وهي وضعية شبيهة إلى حد ما بالحالة الليبية حيث لا يملك فرقاء السياسة إلا قدرًا ضئيلاً من التأثير على من يملك السلاح والرجال، بينما تأتي مبادرات الحلول السياسية من الخارج وفق توازنات تحفظ مصالح الخارج قبل الداخل.
معركة حلب سيكون لها ما بعدها وستؤثر نتائجها في مسار الثورة تأثيرًا كبيرًا وربما تفتح الباب أم تسوية سياسية شاملة تنتهي برحيل الأسد، وحسب تسريبات إعلامية فإن الأتراك يعملون بشكل جدي على تسوية من هذا القبيل، أما مستقبل الوجود الروسي فمن الممكن أن يتحدد بتسوية على هذه الشاكلة ومن الممكن أيضًا أن تحدده عوامل مختلفة أهمها فعالية الأسلحة الروسية على الميدان وقدرة الاقتصاد الروسي على تحمل نفقات هذا الدور العسكري المتقدّم وكذلك عدد التوابيت المتجهة نحو موسكو والتي بدأت بالفعل تشق طريقها إلى هناك.