بقيت مصر فترة طويلة بدون برلمان، في الوقت الذي عمل فيها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي على تعزيز نفوذه وإصدار كم هائل من التشريعات التي غيرت ملامح الحياة السياسية دون رقابة من أحد، سوى اعتراضات من هنا أو هناك من قِبل القوى المدنية والإسلامية التي تم إبعادها بعد 3 يوليو، ولعل أخطر القوانين التي تم تمريرها تلك التي تعلقت بالتضييق على حرية التظاهر وتلك المتعلقة بمكافحة الإرهاب.
لكن الجميع في قرارة نفسه كان يعلم أن هذه الظروف الحالية لم تكن لتسمح بخروج برلمان قوي ينافس مؤسسة الرئاسة أو يُحكِم رقابته عليها في حال تم تنظيم انتخابات برلمانية في وقت مبكر، فقد تم العمل على إضعاف الخصوم وإزاحتهم تمامًا وإضعاف تأثيرهم، اتضح هذا جليًا من الانتخابات الرئاسية التي كانت محسومة النتائج بسبب ضعف المنافسين.
لكن يبدو أن الأمور مضت إلى أبعد من ذلك، هذا ما توضحه ملامح الانتخابات البرلمانية المصرية الحالية، فقد ترافقت مع عملية الدعاية الانتخابية والتعبئة جملة من الظواهر شديدة الدلالة على سوء الأوضاع في مصر وربما عودتها إلى وضع ما قبل الثورة، من ضمنها:
– العودة القوية لتأثير المال السياسي: وهو ما أدى إلى إبعاد الشباب عن الترشح للانتخابات البرلمانية بسبب ضعف قدراتهم المادية وعدم وجود مصادر تمويل لحملاتهم الانتخابية، كما عمل أيضًا في التأثير على تراتبية الأحزاب السياسية من ناحية تقديمها لمرشحين؛ حيث نزلت الأحزاب اليسارية التي لا تملك تأييدًا من رجال الأعمال إلى ذيل القائمة؛ وهو ما يعزز فكرة أن يكون البرلمان القادم ذا توجهات نيوليبرالية مثل برلمان 2010 الذي أدت قراراته إلى تأليب الطبقات الفقيرة وحتى المتوسطة وهو ما مهد إلى اشتعال الثورة في 25 يناير 2011.
– ضعف الأحزاب السياسية: فأهم الأحزاب السياسية في مصر وهو حزب الوفد عانى من أزمة خانقة عصفت به وأثرت على أدائه خلال هذه السنة، نفس الأمر بالنسبة للأحزاب الأخرى التي تدهورت أحوالها إلى الأسوأ مما أدى بها إلى استقطاب المستقلين ذوي القاعدة الشعبية العريضة لأنها فقدت جزء هام من التأييد الشعبي، وأهم ما تعانيه الأحزاب السياسية المصرية هو ضعف الديمقراطية الداخلية، وعدم قدرتها على تشبيب المناضلين بسبب ضعف ثقة الأجيال الجديدة بعملها وجدواها، وضعف برامجها الانتخابية، فأبسط قراءة لخريطة تقديم الأحزاب لمرشحيها توضح أن لا أحد من الأحزاب المتقدمة للانتخابات البرلمانية قادر على الحصول على الأغلبية، مما يعني أنه لا يوجد ضمن الأحزاب الحالية حزب واحد قوي قادر على تولي مهمة قيادة توجهات البرلمان القادم، وهو ما يؤكد أن هذا البرلمان سيكون مشتتًا وقدرته على اتخاذ القرارات ستكون مقيدة إلى حد بعيد.
– عودة العائلات: من خلال ترشح عدد كبير للعائلات ذات النفوذ خاصة في منطقة الصعيد، حيث ما تزال الروابط القبلية قوية، وهو ما يدل أيضًا على تعثر عملية تحديث الحياة السياسية وعدم القدرة على تكوين شبكات دعم خارج الروابط الأولية، إذ يفضل المرشحون أن يعملوا تحت اسم عائلة موثوقة من قِبل الناخبين على الانضمام إلى حزب سياسي مهجور شعبيًا.
– ضعف مشاركة المرأة نسبيًا: ما تزال هناك معوقات أمام ممارسة المرأة المصرية دورًا فعالاً في الحياة السياسية، فالسلطة أهملت موضوع تمكين المرأة سياسيًا خلال الفترة السابقة.
– تراجع حضور الحركات السياسية الشبابية: مثل حركة 6 أبريل ورغم أن هذه الحركات ليس من ضمن أهدافها الوصول إلى السلطة إلا أنها قدمت مرشحين في انتخابات سابقة وكان لها حضور قوي، لكنها تغيب عن المشهد الانتخابي الآن بسبب مقاطعتها، حيث لم تبق سوى تلك الحركات التي ساندت انقلاب 3 يوليو مثل تمرد، ومصدر غضب هذه الحركات يعود إلى متابعة السلطة لها بشكل تعسفي والتضييق عليها فضلاً عن غضبها من عدد من الإجراءات والقوانين مثل المحاكمات العسكرية للمدنيين، وانتشار ظاهرة الاعتقال لأسباب سياسية، وقانون التظاهر.
هذا إضافة إلى اختفاء الزخم من الانتخابات الحالية بسبب مقاطعة الأحزاب السياسية ذات التوجه الإسلامي – ماعدا حزب النور – فلا تزال هذه الأحزاب تحظى بشعبية واسعة لا يمكن إنكارها ولا الاستهانة بها، ويتمثل السبب الرئيسي لمقاطعة هذه الانتخابات في السخط من الأوضاع السياسية الحالية واعتبار الانضمام لانتخابات بمثابة تطبيع سياسي، في حين أن ما تهدف إليه هذه الأحزاب حاليًا هو إضعاف السلطة والتأكيد على أنها فاقدة الشرعية.
وقد أكد عدم الإقبال على التصويت على أن هناك خطأ ما، إذ يبدو أن المواطنين فقدوا اهتمامهم بالعمل السياسي ونواتجه، رغم استمرار الألة الإعلامية المساندة للسلطة بالحشد والتعبئة وضمان التأييد لكل ما يقوم به السيسي، ويعود ضعف المشاركة إلى سببين رئيسيين هما دعوات المقاطعة التي يبدو أنها أفلحت من قِبل مؤيدي الأحزاب السياسية الإسلامية وبعض الحركات المدنية، وشعور المواطن بأن البرلمان القادم لن يكون ذا تأثير في مواجهة السلطة التنفيذية.
كل ما سبق يدلل على أن الانتكاسة السياسية المصرية ما تزال مستمرة، إذ تراجعت كل مكتسبات الثورة وبدأت تعود مظاهر الحياة السياسية الشبيهة بما أفرزه نظام حسنى مبارك مرة أخرى.