ربما تذكر الألمان وهم يرحبون باللاجئين السوريين أحداث خريف 1944-1945 أثناء نزوحهم من شرق الرايخ النازي سيرا على الأقدام هربا من تقدم الجيش السوفياتي، وما تلاها من وفاة بين أربعمئة ألف ومليوني شخص بعد أن تشرد 10 إلى 12 مليون شخص في أجواء جليدية مأساوية.
وقد شكل هذا الأثر الوجداني عاملا محفزا لاستقبال اللاجئين الفارين من كوارث الحرب وويلاتها، ومن ناحية أخرى مواجهة مخاطر داخلية تتعرض لها ألمانيا دعتها لاستقبال أكثر للاجئين، حيث تشهد الجغرافيا الألمانية اليوم استقطابا واضحا للاجئين السوريين الذين تشهد بلادهم أشد أنواع الصراع بدءا من العسكري وليس انتهاء بإرهاب النظام الحاكم، وتطرف الجماعات العابرة للحدود حيث أضحت القضية السورية من أعقد الإشكالات التي تواجه المجتمع الدولي خاصة مع تزايد قتامة المشهد السياسي الذي يتعرض لمتغيرات تعقد مداخل الحل وتزيد من تشظي البنية السورية.
العجز السكاني
تعاني ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية من ارتكاسات واضحة في بنيتها السكانية تجعلها تبحث عن “نوع مهاجر” يسد هذا العجز ويتضح ذلك من خلال عدة ظواهر رئيسية، أهمها ما يتعلق بمعدل الولادات المنخفض وارتفاع متوسط الأعمار بالإضافة إلى اتجاه المجتمع الألماني نحو الشيخوخة.
بالتمعن في عدد الولادات يظهر أن ألمانيا لديها انخفاض حاد في معدل الولادات، فمنذ عام 2000 يسجل المؤشر انخفاضا مطردا، حيث سجل في العام الجاري 8.42 لكل ألف شخص في حين سجل معدل الوفيات 11.5 حسب الإحصائيات الصادرة من موقع (indexmundi)، وهذا يبين حجم المشكلة فمقابل ثماني ولادات هناك 11 وفاة سنويا لكل ألف شخص أي أن هناك عجزا بنسبة 0.3%، بينما -وعلى سبيل المقارنة- في سوريا بلغ معدل الولادات 31.11 طفلا لكل ألف شخص في عام 2000.
كما أنه خلال الـ35 سنة الأخيرة يقل جيل الأطفال عن جيل البالغين بمقدار الثلث -فمن بين تسعين بالغا يوجد ثلاثون طفلا- حيث يعتبر معدل الخصوبة عند الألمان من أدنى المعدلات في العالم حيث يبلغ 1,38 طفل لكل امرأة.
يذكر أن ألفي مدرسة أغلقت بين 1989 و2009 بسبب عدم وجود عدد كاف من الأطفال، وفي الوقت الذي يدخل فيه ثمانمئة ألف طالب إلى المدرسة في ألمانيا يحال إلى التقاعد 850 ألفا سنويا.
وبالنسبة لمتوسط الأعمار فقد ارتفع بشكل متزايد في السنوات الماضية ليصل إلى 77 عاما بالنسبة للرجال و82 بالنسبة للسيدات، مما يشير إلى شعب معمر فمن المتوقع أن يتجاوز عدد السكان ممن هم فوق 65 عاما من 17 إلى 22 مليونا، مما يوجب على الحكومة تأمين رعاية صحية وتأمينات اجتماعية لهم، في الوقت نفسه انخفضت الفئة العمرية بين 24 و64 عاما من 49 مليونا إلى ما بين 38 و43 مليونا، وفي حال استمر العجز السكاني فإن عدد السكان في عام 2060 سيتقلص بنسبة 19% ليصل إلى 66 مليون نسمة.
أما معاناة ألمانيا من الشيخوخة فهي ناجمة عن إحجام الألمان عن الإنجاب وارتفاع متوسط الأعمار، فالشعب الألماني يوصف بأنه يعيش طويلا وينجب قليلا حيث بلغ عدد المسنين ممن يحتاجون إلى رعاية 2.24 مليون مسن عام 2009 ويتوقع أن يصل العدد في عام 2030 إلى 4.35 ملايين بحسب مكتب الإحصاء الألماني.
ويشير المكتب أيضا إلى أن “نسبة الشيخوخة سترتفع ما فوق 65 عاما على أن يشكل هؤلاء ثلث عدد السكان عام 2060″، ويتوقع أيضا أن تنخفض نسبة من هم تحت سن 15 عاما إلى 13% وهي من بين أدنى النسب المئوية في العالم، أما من هم فوق الستين فمن المتوقع أن ترتفع نسبتهم من 27% إلى 39%.
“معاناة ألمانيا من الشيخوخة ناجمة عن إحجام الألمان عن الإنجاب وارتفاع متوسط الأعمار، فالشعب الألماني يوصف بأنه يعيش طويلا وينجب قليلا، حيث بلغ عدد المسنين ممن يحتاجون إلى رعاية 2.24 مليون مسن عام 2009 “
وبحسب الباحث الألماني ستيفن كرامر، فإن من أبرز أسباب إحجام الألمان عن الإنجاب هي السياسة المتبعة من قبل النظام النازي في الماضي، مع بروز ظاهرة الالتزام بالعمل أكثر، والقلق من الزيادة المفرطة في عدد السكان خوفا من تخريب البيئة.
الحاجة للعمالة
إدراكا من الحكومة الألمانية أن انخفاض القوة العاملة في السوق له آثار سلبية على ازدهار الاقتصاد والنمو فإنها تقوم بسد فجوة العجز العمالي لديها من المهاجرين وطالبي اللجوء حيث تستقبل مئة ألف لاجئ سنويا، وحيث يؤدي النقص في العمالة إلى انخفاض تمويل صناديق التقاعد والتأمين الصحي وانخفاض المستهلكين والمنتجين للبضائع في السوق المحلية وقلة دافعي الضرائب الذين يدفعون لبناء المدارس والطرق، مما يؤدي إلى انخفاض في معدل النمو وبالتالي إلى تدني مستوى الرفاهية في الدولة، لذلك يعد انضمام المهاجر إلى العمالة تخفيفا لاستنزاف الخزينة العامة للدولة.
ومع ازدياد العجز السكاني دون محاولة ملء الفراغ في السوق الناجم عن تقلص عدد السكان سيغدو العمال المتخصصون وملء شواغر العمل شبحا يطارد الشركات الألمانية التي لا تهتم إلا بالعمل فقط، ويذكر هنا أن سوق العمالة الألماني يحتوي على 46 مليون شخص قادر على العمل.
لكن بعملية حسابية إذا ما تم طرح العمالة الوافدة من الرقم السابق خلال الثلاثين عاما المقبلة فسينخفض الرقم إلى 29 مليون عامل حسب تقرير دير شبيغل الألمانية، ويظهر شدة العوز للعمالة. لذلك في ظل ما تواجهه ألمانيا من شيخوخة وتقلص عدد السكان لا بد لها من استقبال اللاجئين من أجل سد العجز السكاني ولاستمرار دوران العجلة الاقتصادية.
علاوة على هذا ستجد ألمانيا نفسها مجبرة على استقبال لاجئين من دول العالم الثالث بسبب تعافي اقتصادات الدول الأوروبية من آثار الأزمة المالية التي كانت تمد السوق الألمانية بالعمالة من مختلف الاختصاصات، كما أن كثيرا من تلك البلدان تعمل على معالجة النقص في السكان والشيخوخة لديهم.
وبحسب صحيفة الغارديان فإن ألمانيا تستعد لخسارة خمسة ملايين عامل في السنوات الـ15 المقبلة، وفي هذا المقام لا تقتصر حاجة سوق العمل على الأكاديميين وذوي الكفاءات العالية بل يحتاج السوق أيضا إلى أشخاص من ذوي الخبرات المتوسطة والمنخفضة مثل مجالات التمريض والزراعة والمطاعم وغيرها، علما أن الوظائف الشاغرة في هذه المجالات تشهد ارتفاعا، فقد أشار معهد بحوث التوظيف الألماني إلى تزايد في عدد الوظائف الشاغرة بسوق العمل الألماني منذ يوليو/تموز 2010 إلى يوليو/تموز 2015.
الأزمة السورية
وفقا لأرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فإن أعداد اللاجئين السوريين منذ اندلاع الأحداث سجلت أكثر من أربعة ملايين سوري، أي نحو سدس عدد السكان فروا من الصراع الدائر في سوريا إلى الخارج.
سجلت ألمانيا النصيب الأعلى لوجهة اللاجئين في عام 2015 فمن بين 270 ألف لاجئ سوري قدموا لجوءا إلى أوروبا هناك 98 ألفا و783 لجؤوا في ألمانيا أي بنسبة 36% وهي الأعلى بين دول الاتحاد الأوروبي، وطبقا لبيانات المكتب الاتحادي للنصف الأول من العام 2015 “فإن السوريين شكلوا النسبة الكبرى من عدد طالبي اللجوء في ألمانيا بنسبة 20,3% بواقع حوالي 32 ألف لاجئ من أصل 160 ألفا من جميع الجنسيات”.
وفي ما يخص تفضيل اللاجئ السوري ألمانيا دون سواها فيعزى ذلك بالدرجة الأولى إلى السياسة الألمانية المرحبة باستقبال المهاجرين، كالتسهيلات المقدمة للاجئين السوريين في الرعاية والحقوق والحماية الإنسانية، بالإضافة إلى تعليقها العمل باتفاقية دبلن وقبولها طلبات لجوء للاجئين لهم بصمات في دول أوروبية أخرى.
وساهم ارتفاع نسبة الحماية للاجئ السوري -التي ترمز إلى نسبة حصول أشخاص من بلد معين على اللجوء السياسي- في تسريع عملية القبول، ومما ساهم أيضا في ذلك نوعية المهاجر السوري، حيث شكل التحصيل العلمي للمهاجرين السوريين ونسبة الوافدين الذكور الشباب (الطامحين للعمل) عوامل محفزة.
بناء على ما سبق فقد بينت التحليلات والإحصائيات تشكل إطار موضوعي محفز للحكومة الألمانية للبحث عن سبل لسد العجز السكاني، وقد جاء تعاطيها مع أزمة اللاجئين السوريين وفق معطيات موضوعية مرتبطة بمفهوم المصلحة القومية، حيث أظهرت سياستها ارتباطها بأسباب تتعلق بالبنية المجتمعية الألمانية التي تعاني عجزا مستمرا في السكان والعمالة، وهذا ما وجدته بنوعية المهاجر السوري، خاصة بعد إخضاع اللاجئين لجملة إجراءات تتعلق بالنوع ومدى التأقلم مع الثقافة والهوية الألمانيتين. ومن ناحية المهاجرين السوريين فقد رأوا أن ألمانيا بلد يحقق لهم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الذي افتقدوه في بلدهم.
المصدر: الجزيرة