تدل أغلب الاحصائيات والدراسات على تفشي الجرائم المتعلقة بالجنس في عدد ضخم من أكبر الدول العربية، إذ أشار التقرير السنوي لحالة المرأة المصرية لعام 2014 أن 66% من النساء المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي بشكل يومي، كما ذكرت دراسة ميدانية لوكالة رويترز عام 2010 أن السعودية احتلت المركز الثالث على العالم في التحرش والابتزاز الجنسي في مقر العمل، وعلى ذكر السعودية تشير أيضًا دراسة نشرتها كلية التربية بجامعة الملك سعود أن طفل من كل أربعة أطفال قد تعرض لاعتداء جنسي في مرحلة ما من حياته؛ كما أن نصف الأطفال في سن الرابعة عشرة بالسعودية قد تعرضوا لحالة واحدة من التحرش الجنسي على الأقل.
تعتبر الجرائم المتعلقة بالجنس نوعًا من أنواع المرض الاجتماعي بالأساس؛ وإن كانت تمثل الحالات الأكثر تطرفًا وعنفًا ووضوحًا من أشكال الأمراض الاجتماعية، إلا أن هذه الأمراض لا تتوقف عندها؛ فهناك الكثير من الأقل تطرفًا والتي قد لا ترقى إلى تعريف الجريمة قانونيًا، مثال على ذلك ما يعرف بالعنف المنزلي ضد كل من الزوجة والأطفال، أو تفشي ظواهر كالزنا (وزنا المحارم كصورة أكثر تطرفًا) في مجتمعات عربية لا تقبله بشكل تقليدي، وأخيرًا المشكلة التي لا يظن أنها على قدر كبير من الأهمية، والتي هي على العكس من ذلك تمامًا: تأخر سن الزواج.
بقراءة سريعة للواقع الاجتماعي العربي سنجد أن إشكاليات الزواج بشكل عام وإشكالية تأخر الزواج بشكل خاص تستفحل في صعوبتها وتعقيدها، ولذلك نحاول بشكل سريع وبسيط أن نفكك الزواج كمنظومة اجتماعية بالأساس، وأن نفهم علاقتها بالدين والعادات المجتمعية كمحاولة لتفسير أسباب التفسخ الذي يصيب التماسك المجتمعي نتيجة للاختلال الوظيفي الذي أصاب هذه المنظومة.
الحديث عن الزواج في السياق العربي والإسلامي يتطلب الحديث عن الممارسة الجنسية أولًا وقبل كل شيء، ففي العالم العربي يظل الزواج هو المنظومة الاجتماعية الوحيدة تقريبًا التي تسمح بالممارسة الجنسية بشكل مقبول اجتماعيًا.
الممارسة الجنسية هي إحدى الحاجات شديدة الأولية في الحاجات البشرية بشكل عام، فالحاجة الجنسية هي غريزة تهدف بشكل أساسي لحفظ النوع البيولوجي لأي كائن حي عن طريق ربط التكاثر بقدر من المتعة لضمان رغبة الفرد في القيام بعملية التكاثر أكثر من مرة، وبهذا الشكل يمكن تفهم مقارنة بعض الأشخاص للاحتياجات الجنسية في الكائنات الحية بالحاجة إلى الغذاء مثلًا، إذ إن الأولى تحفظ بقاء النوع بشكل عام، والثانية تحفظ بقاء الفرد.
في حالة الجنس البشري تحديدًا يصبح الأمر أكثر تعقيدًا نظرًا لأن العملية الجنسية تصبح ثلاثية الأبعاد، فالبعد الأول هو الحاجة الحيوية الجسدية، والثاني هو بعد المشاعر ومعناها الذي يدركه البشر دون غيرهم من الكائنات، والثالث هو بعد المعاني والقيم المجتمعية المحملة بها العملية الجنسية حتى النواة.
يصعب الحديث هنا عن البعد الشعوري؛ ولذلك سنباشر بالحديث عن البعد الاجتماعي، والأهمية الاجتماعية للجنس ترتبط إلى حد كبير بكل من إشكالية عملية التربية الأسرية، وإشكالية ضمان قيام العلاقات الجنسية بما يصب في مصلحة المجتمع ككل، فأغلب التجمعات البشرية مثلًا لا تقبل قيام علاقات الجنس والزواج بين الإخوة مثلًا لأن هذا يضر بالثبات الاجتماعي والتنوع الجيني للمجتمع، بينما عدد قليل جدًا من المجتمعات في أقاصي الأرض تقبله وتشجعه كوسيلة للحفاظ على الثروة أو الملك أو النقاء العرقي، كما الحال في بعض ممارسات الأسر المالكة في مصر القديمة مثلًا.
تقوم كل الدول العربية تقريبًا بضبط علاقة الزواج والجنس (على الأقل على المستوى الرسمي أو المعتاد) استنادًا على قواعد الزواج الإسلامية، وبالرغم أن التطبيق يختلف من مكان لآخر، إلا أن القواعد الأساسية تبقى واحدة، يتم الجمع بين ذكر وأنثى عبر عملية إشهار أحادية الطرف للمجتمع، إذ لا يملك المجتمع (نظريًا) أن يعلن اعتراضه على مثل هذا الأمر، ويشترط أن تحضر نية الاستدامة، وبهذا الشكل تصبح ممارسة العلاقة الجنسية بين الطرفين شرعية، وأي نسل ينتج عنها هو نسل معروف الأصل والنسب مجتمعيًا بالضرورة.
تبدأ الرغبة في الممارسة الجنسية في التطور تدريجًا لدى البشر مع بداية مرحلة البلوغ، أي قرابة عمر الحادية عشرة للفتيات والثالثة عشرة للفتيان، بالطبع لا تظهر هذه الرغبة فجأة وإنما تتطور تدريجيًا لتكتمل مع اكتمال البلوغ وعملية التعليم المجتمعي للجنس بالتدريج، أي في حدود السادسة عشرة من العمر عند الجنسين، جرت العادة قديمًا عند المسلمين وغيرهم على السماح للشباب بممارسة الجنس سواء داخل إطار الزواج أو خارجه قرابة هذا العمر، وتبقى مثل هذه الترتيبات موجودة حاليًا على الأطراف من مراكز الدولة العربية الحديثة عبر عمليات الزواج المبكر في قبائل البدو أو قرى الصعيد المصري مثلًا.
إلا أن الوضع المعتاد حاليًا في أغلب الدول العربية هو تأخر سن الزواج عن هذه المرحلة لاعتبارات قانونية واقتصادية بالأساس، إذ يعتبر السن النموذجي للزواج في أغلب المدن العربية حاليًا هو أواسط العشرينات للذكور وبدايتها للإناث، وبالطبع فإن الواقع يختلف عن النموذجي بكثير.
إحدى أكثر الظواهر الاجتماعية تفشيًا في كل المجتمعات العربية هي تأخر سن الزواج، وبالتأخر يعنى التأخر عن فترة العشرينات، إذ أصبح من المعتاد جدًا رؤية ذكور في الخامسة والثلاثين وحتى الأربعين من عمرهم وهم لم يسبق لهم الزواج، وفي حالة الظن بالتزامهم بالقواعد الدينية للمجتمع، يعني هذا أن هؤلاء قد وصلوا لهذا السن بدون ممارسة الجنس ولو لمرة في حياتهم، أربعة وعشرين عامًا منذ أن أصبح جسد هذا الفتى مستعدًا لممارسة الجنس وفي احتياج له، ويبقى هذا الاحتياج غير محقق.
ويصبح الأمر في حالة الإناث أكثر خطورة، إذ إن العرف الاجتماعي في أولوية الزواج من صغيرات السن يعني أن فرصهم في الزواج والممارسة الشرعية للجنس تتقلص يومًا بعد يوم، وأضف على ذلك أن سنوات الخصوبة المحدودة عند الأنثى تنقص بنفس المقدار.
هل من الطبيعي أن تبقى أعداد بهذه الضخامة من أعضاء المجتمع بدون الوصول إلى تحقيق حاجة شديدة الأساسية والبيولوجية كهذه؟ هل من الطبيعي أن يتحول تحقيق هذه الحاجة من حق إلى أمر هو من “القسمة والنصيب”؟
غالبًا ستعني أي إجابة بنعم على السؤالين سابقين أنه من الطبيعي أيضًا بالضرورة أن يبقى مثل هذا العدد بالجوع والعطش القاتلين بلا مشكلة.
أغرقت المجتمعات العربية في التركيز على الجانب الاجتماعي من الزواج والعملية الجنسية، وأغرقت أيضًا في إغفالها عن البعدين الشعوري والبيولوجي، وأصبحت ترتيبات الزواج العملية المرتبطة بالمهور والمناصب والأعراق تمثل تهديدًا حقيقيًا لقواعد وتماسك هذه المجتمعات نظرًا لتحول الزواج إلى حلم بعيد المدى مما سمح بتوجه الأفراد نحو المجال المظلم للمحظورات الاجتماعية، أصبح الزواج مشروع عمر يستغرق سنوات من العمل والادخار والاستعداد عوضًا عن كونه عملية إشهار اجتماعي وتوفيق بين فردين، وأصبح الطلاق خطرًا يعني ضياع المجهود والمال للذكر، والوصمة الاجتماعية وشبه استحالة استكمال حياة طبيعية للأنثى.
في المقال القادم نحاول القيام باستكشاف الأبعاد الاجتماعية لثنائية الزواج والطلاق، وتحولها إلى مخزن لكل من القيمة الاجتماعية والمادية، ونحاول أيضًا أن نقدم مقاربة تاريخية ونوعية سريعة بين العلاقة الاجتماعية المعروفة حاليًا بالزواج، وبين كل من ما يعرف بالزواج الكاثوليكي والزواج في عصر النبوة الأولى.