في سبعينيات القرن الماضي، قرر النظام المصري بكل ثقله آنذاك الانضمام للمعسكر الأمريكي، لينقل مصر بوزنها بعيدًا عن نفوذ الاتحاد السوفيتي، ويجلب لواشنطن حليفًا شديد الأهمية لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة، وهو تحوّل كان من أبرز أسباب هيمنة الولايات المتحدة بالفعل على المنطقة خلال العقود التي تلته، خاصة بعد أن فقد الأمريكيون حليفًا مهمًا في نفس الفترة، وهو النظام الإيراني الذي أسقطته الثورة عام 1979، لتبدأ عداوة طويلة بين طهران وواشنطن، ورغبة ملحة من الأخيرة في تشكيل جبهة صلبة لمواجهة النظام الإيراني الجديد استمرت بعد نهاية الحرب الباردة، وهي جبهة نجحت الولايات المتحدة في بنائها بتحالفها مع الخليج من ناحية، وبشراكتها مع مصر وإسرائيل والسلام الموقع بينهما من ناحية أخرى.
بيد أن ما يجري في الشرق الأوسط منذ بدء إدارة أوباما يشي بتغير كبير يطال الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، بشكل يبدو معه أن الأهداف المشتركة التي جمعت الطرفين يومًا ما لم تعد قائمة، علاوة على أن أهمية وثقل مصر في محيطها قد تضاءلا بشكل لم تعد معه الولايات المتحدة تستفيد من شراكتها كما كانت في السابق، وبالنظر للدعم الأمريكي الحذر للربيع العربي ثم التعامل المفتوح مع الرئيس المنتخب محمد مرسي، قبل أن يزيحه الجيش في يوليو 2013، يبدو وأن الولايات المتحدة قد راهنت على التغيير بشكل يجعلها غير قابلة بسهولة للتراجع الشديد في ملف الديمقراطية تحت نظام السيسي، وهو ما يستتبع أن تتخلى عن شراكتها مع مصر برمتها، كما نشرت دورية فورين أفيرز الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، على لسان مايكل وحيد حنا المحلل السياسي.
“على الولايات المتحدة أن تصل لموائمات مع النظم الاستبدادية أحيانًا، وبينما تنتشر القوى المتطرفة في المنطقة وتنشر الفوضى قد يبدو أن إصلاح العلاقات مع حلفاء واشنطن التقليديين أمر منطقي، غير أن هناك شرطًا هامًا للقيام بتلك الموائمات وهو أن تكون المزايا الاستراتيجية منها أكبر من الثمن الذي يُدفَع لأجلها، وهو شرط لا يتحقق فيما يخص الشراكة المصرية الأمريكية التي تستمر إلى اليوم.. وبمعونة عسكرية تصل بـ1.3 مليار دولار، وتعاون لا يزال حاضرًا على المستوى العسكري وإن توترت العلاقات الدبلوماسية، كما تشي بذلك زيارة جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، للقاهرة وتدشينه لأول حوار استراتيجي بين البلدين منذ عام 2009،” هكذا كتب حنا.
2010-1970: العصر الذهبي للعلاقات المصرية الأمريكية
الرئيس المصري حسني مبارك مع نظيره الأمريكي رونالد ريجان
بدأ بحث الأمريكيين عن شركاء استراتيجيين في الشرق الأوسط مع الخمسينيات، حين تراجع نفوذ القوى الاستعمارية التقليدية وظهرت الملكيات والجمهوريات المستقلة، وكان حتميًا أن يلعب الشرق الأوسط دورًا محوريًا في الاستراتيجية الأمريكية عالميًا أولًا لقربه من الاتحاد السوفيتي وقدرته على احتواء قوته، فهو يضم إيران وتركيا وباكستان كحزام متاخم لآسيا الوسطى التي كانت قابعة تحت حكم السوفييت آنذاك، وثانيًا نتيجة الاعتماد الغربي الكبير على النفط والغاز القادمين من الخليج، مما يجعل مهمة تأمين المنطقة وخطوط نقل النفط مسألة حيوية للاقتصادات الغربية.
برزت بشدة مدى حساسية هذين الملفين مع حرب أكتوبر عام 1973، حيث مثل حظر تصدير النفط الخليجي ضربة كبيرة للولايات المتحدة وأوروبا، في حين أثبت التعاون السوفيتي المصري الوثيق أنه يستطيع قلب الموازين في المنطقة من قلبها العربي، حتى ولو كانت الولايات المتحدة تتمتع بتحالفات قوية مع دول الحزام الشمالي، تركيا العضوة في الناتو وإيران البهلوية آنذاك وباكستان، ومع إسرائيل أيضًا كبلد صغير محاط بأعدائه من العرب، فالصراع العربي الإسرائيلي بذاته يثير الكثير من الاضطرابات، كما أنه يستدعي وجود الروس في المتوسط ويتيح لموسكو تجاوز الحزام الشمالي، علاوة على أن الروابط العربية بين الخليج وجيران إسرائيل تجعل مواقفه بالطبيعة أقرب لمصر.
تباعًا، بدأ منذ تلك الحرب وصاعدًا الاهتمام بالعلاقات مع الدول العربية الكبيرة ومحاولة استمالتها للتحالف الأمريكي، بالإضافة إلى التركيز على تدشين عملية سلام بين العرب وإسرائيل كشرط إضافي لاستقرار المنطقة وعدم وجود ذريعة لتواجد السوفييت فيها، وهو ما نراه بالفعل من نهاية السبعينيات، حيث نجحت واشنطن في اقتناص تحالف مع مصر، الدولة الأهم والتي لا يمكن خوض حرب إقليمية عربية مفتوحة بدونها، ثم قامت برعاية اتفاقية كامب ديفيد بينها وبين إسرائيل لتفتح باب السلام مع تل أبيب مع كافة البلدان العربية عاجلًا أو أجلًا، وهي جهود توِّجت بدخول السلطة الفلسطينية نفسها عبره في أوائل التسعينيات.
طوال تلك الفترة، لعبت مصر تحت حُكم مبارك دورًا هامًا في الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، علاوة على علاقاتها المتينة مع الخليج، والتي أغلقت تمامًا الشرق الأوسط بوجه الروس حتى بعد خروج إيران الإسلامية من التحالف الأمريكي، ودورها السياسي والإقليمي الذي كان لا يزال ثقيلًا حينئذ في احتواء، والضغط على، النظم القومية التي ظلت على موقفها المعادي لإسرائيل، مثل العراق تحت حكم صدام حسين، والتي شاركت مصر في عاصفة الصحراء الأمريكية ضدها في التسعينيات، وسوريا تحت حكم حافظ الأسد، والتي لم يكن بوسعها بالطبع أن تخوض الحرب وحدها.
نتيجة لهذا الدور، تلقت مصر وجيشها بالتحديد مساعدات كبيرة على مدار تلك السنين باعتبارها القوة العسكرية والديمغرافية الوحيدة التي تستطيع بالتعاون مع قوة الخليج الاقتصادية تحجيم أية قوة عربية “مُمانِعة،” وبالعلاقات القوية مع إسرائيل وعضوية تركيا في الناتو تشكيل ضغط كافٍ لاحتواء الدور الإيراني، والذي ظهر مستنزفًا في حربه مع العراق، ثم صاعدًا بهدوء في العقد الأخير من القرن الماضي بعلاقاته بنظام الأسد وحزب الله في جنوب لبنان، وهي مساعدات ازدادت بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر لتفعيل دور مصر في الحرب على الإرهاب.
الربيع العربي ونهاية الشراكة
تبدلت الأوضاع بالطبع كما نعرف بعد الربيع العربي، أولًا نتيجة التحول في الرؤية الأمريكية للنظم القائمة، والتي بدت هشاشتها بعد الربيع العربي لتدفع بواشنطن لدعم التظاهرات بشكل حذر، ثم التعاون بشكل مفتوح مع أي حكومات إسلامية تخرج من رحم العمليات الديمقراطية الجديدة كنوع من أنواع احتوائها بدلًا من اتجاهها للعنف، وهي واحدة من القناعات التي رسخت في واشنطن مع الوقت؛ أن النخب غير الإسلامية، إن شئنا تسميتها كذلك، لم تعد قادرة على تقديم مشروعات حقيقية تُرضي مواطنيها، وأن الحركات الإسلامية إن لم تُفتَح لها أبواب السلطة ديمقراطيًا ستتجه للعنف، وهو سيناريو يقلق الأمريكيين نتيجة معاناتهم من الحركات الإسلامية العنيفة في أفغانستان.
لسنا في حاجة لسرد ما جرى في مصر على مدار السنوات الأربع الماضية، فالانقلاب العسكري، وإن تفادى الموقف الرسمي الأمريكي نعته بهذا الاسم حفاظًا على تدفق المعونة وتفاديًا لاتخاذ موقف متطرف وسريع من السلطة الجديدة، لم يكن على هوى الأمريكيين أبدًا، كما أن النهج الذي سلكه السيسي من تشديد القبضة الأمنية في مواجهة الحركات الإسلامية قد أثار حفيظة الكثيرين في واشنطن نتيجة قناعتهم بأن القمع هو السبب الرئيسي في التطرف، وأن السلطة في القاهرة يجب أن تفرّق بين حركات سلمية مثل الإخوان وحركات عنيفة كالقاعدة وداعش، وهو ما لم تستجب له القاهرة حتى الآن ماضية في سياساتها، والتي يراها حنا نتيجة منطقية لكون الخليج، المتحفظ على الإسلاميين كافة، الداعم الرئيسي الآن لمصر بوصول معونته منذ الانقلاب إلى 30 مليار دولار، مقارنة بالمعونة الأمريكية الأقل بكثير.
السلطة في القاهرة ليست فقط بعيدة عن الرؤى الجديدة في واشنطن، ولكنها تثير الإحباط منذ فترة ليست ببعيدة نتيجة عدم كفاءتها العسكرية رُغم الدعم الكبير الذي تتلقاه، ولا يتلقى أحد في المنطقة أكثر منه سوى إسرائيل، وهو دعم تخيل الأمريكيون أنه سيجعل من الجيش المصري، كما يفعل مع حلفاء أمريكا حول العالم مثل اليابان وباكستان، قوة ذات مهنية عالية في مواجهة الحركات المسلحة، ومعادل ثقيل في احتواء القوى المعادية للولايات المتحدة، وهي إيران في حالة الشرق الأوسط (والصين في حالة اليابان مثلًا)، وهو أمر لم يتحقق، إذ يظل مستوى القوات المسلحة المصرية دون المستوى المطلوب لمكافحة الإرهاب في سيناء كما نشهد الآن، وهو انعدام كفاءة تحاول القاهرة تعويضه بممارسة العنف العشوائي والموسع في شمال سيناء بشكل يثير مرة أخرى حفيظة الأمريكيين الذين يعرفون جيدًا كيف تعزز هذه الاستراتيجية في الحقيقة من راديكالية الحركات والقطاعات الشبابية الموجود هناك.
الافتراق الاستراتيجي بين الطرفين حتمي أيضًا لأسباب أخرى على المستوى الإقليمي، أبرزها أن الملفين الأصليَّين اللذين دفعا بواشنطن يومًا ما للاهتمام بمصر، وهما حماية النفط الخليجي وتعزيز عملية السلام مع إسرائيل كما ذكرنا، لم يعد لهما قيمة تقريبًا في ميزان الحسابات الأمريكية الجديدة، فالنفط الخليجي وإن كان لا يزال جزءًا غير هيّن من السوق الأمريكي، إلا أن النفط والغاز الأمريكيين بعد ثورة شيل قد قضيا تمامًا على أولويته كمسألة أمن قومي أمريكي ملحة، أما عملية السلام المجمدة حاليًا والتي فشل فيها جون كيري مؤخرًا، فإن واشنطن تدرك الآن أن الساحة الإقليمية التي تعج بالحركات المسلحة والدول المتصدعة لم يعد ينفع معها مسار السلام، والذي اعتمد يومًا ما على رسوخ الدول القومية التقليدية، مثل عراق صدام وسوريا الأسد ومصر مبارك، إلخ.
ولكن الشراكة ستموت تدريجيًا
كل تلك العوامل قد تخيّل للبعض أن الشراكة المصرية الأمريكية يمكن أن تنتهي بين ليلة وضحاها، تمامًا كما تصور البعض أن اتجاه أولوليات الأمريكيين من الأطلنطي وأوروبا والشرق الأوسط نحو المحيط الهادي وشرق آسيا يعني خروج الأمريكيين في غضون أشهر أو حتى عام من كافة ملفات الشرق الأوسط، ولكن التحولات بطبيعة الحال تجري ببطء، وهو أمر سيسري على شراكة الأمريكيين مع القاهرة، والتي وإن استمرت على المستوى الاستراتيجي كما تشي لنا زيارة جون كيري، إلا أنها متآكلة بالفعل دبلوماسيًا وسياسيًا، خاصة وأن القاهرة كما رأينا لا تأخذ بآراء الأمريكيين الجديدة فيما يخص احتواء الحركات الإسلامية السلمية، ولا هي ترفع كفاءتها من ناحية أخرى بما يكفي لاقتلاع الإرهاب.
تقليل الدعم من 1.3 مليار دولار، إلى نصف مليار فقط، ومقيدة في استخدامها بتعزيز الكفاءة العسكرية، هي السياسة الجديدة التي يقترحها مايكل حنا في مقاله بفورين أفيرز، وهي سياسة لا تزال تبحث عن داعم لها في أروقة واشنطن، والتي وإن ابتعدت عن القاهرة بشدة منذ انقلاب يوليو، إلا أنها لا تزال خاضعة لضغط اللوبيات الداعمة لإسرائيل، والتي تضغط من أجل السيسي كحليف قوي وقريب منها، كما تفعل ضغوط الإمارات المثل، غير أن ملف سيناء وأي تدهور قد يحدث فيه قد يفرض على واشنطن بالفعل تبنى تلك السياسة الجديدة، لا سيما وأن نفوذ إسرائيل نفسها قد بدأ يتآكل تدريجيًا هو الآخر مع تحولات الرؤى الأمريكية، حيث ترفض إسرائيل كما نعرف أي احتواء للحركات الإسلامية أو دعم للديمقراطية في جوارها العربي.
كل ذلك في النهاية لا يعني أن الأمريكيين لا يحصلون على شيء البتة من مصر، فهم يمرون بسلاسة من قناة السويس بسفنهم العسكرية، كما تطير طائراتهم في المجال الجوي المصري بسهولة، ولكن مرة أخرى، وبالتدريج، بينما يقل حضور الطائرات والسفن الأمريكية بالمنطقة، وبينما تتمركز بالتوازي لدى حلفاء جدد، فإن الفوائد التي تجنيها واشنطن من القاهرة ستتضاءل رويدًا، بينما سيحل محلها أطراف مثل إيران سياسيًا، فيما يخص احتواء الحركات السنية المتطرفة، وتركيا عسكريًا، والتي لا تزال عضوة بالناتو وتتيح قواعدها وصولًا أسهل للعراق وسوريا، وبعض القوى الصغيرة كحكومة كردستان العراق والمعارضة السورية، إلخ.
***
في هذا الصدد، بقى أن نشير أخيرًا إلى أن ما يروجه بعض أعداء الانقلاب من أن العلاقة بين الطرفين لا تزال على ما يُرام، في محاولة لوصم نظام السيسي بـ”الدعم الأمريكي” هو أمر في غير محله، أولًا لأن الشراكة بالفعل اهتزت كثيرًا بعد الانقلاب، وثانيًا لأن الدعم الأمريكي بحد ذاته ليس وصمًا شريطة أن يكون استجلابه في تعزيز لمصلحة حقيقية، كما يفعل الأتراك والإيرانيون، أما النظام الحالي في القاهرة فهو ربما يعلق الآمال في المستقبل على موسكو دوليًا، وحلفائه في تل أبيب وأبو ظبي إقليميًا، وهي شراكات قد لا تكفي لخلق دور مصري ثقيل كما كان في السابق، ولكنه دورًا لا يبالي به أحد في الحقيقة الآن بينما يسعى النظام لتعزيز قبضته ليس إلا.