مبدئيًا، سأجيب بنعم، السيسي سعيد بقلة أعداد الناخبين من المقيدين بكشوف اللجنة العليا للانتخابات البرلمانية 2015 والذين يبلغ عددهم، حسب اللجنة، ما يقارب أربعين مليون وأربعمائة ألف فرد له حق التصويت، هذا إن لم يكن السيسي نفسه قد أعد لذلك مسبقًا وسأوضح بعض المؤشرات التي قد تعطي هذه النتيجة.
أولاً: السيسي يدرك خطورة ضعف المشاركة في الانتخابات البرلمانية، بما سيسمح للقوى المنظمة والكتل الصلبة التي لم يتبق منها إلا حزب النور ومن ورائه الدعوة السلفية البرهامية، أن تستأثر بأكبر عدد ممكن من المقاعد.
ثانيًا: نفس المشكلة تواجهها الحكومة في حالة تقدم رجال “الوطني” القدماء، ومجموعة المصالح المحسوبة على نظام مبارك، هذه المجموعة مازالت تعمل بالطريقة الكلاسيكية المعهودة منذ قبل الثورة، يعملون في الخفاء، يوزعون الرشاوى، ثم يعودون للاختفاء من جديد، وهذه الوسائل من الصعب التصدي لها أو الحد منها، خاصة وأن هذه المجموعة يقف خلف كل منها شركة أو مؤسسة اقتصادية ليست صغيرة، ولهم باع في مثل هذه الأعمال من قبل الثورة.
والخطورة هنا تكمن في تعارض المصالح بين قوتين قائمتين بالفعل، فإذا عاد رجال مبارك للصورة من جديد، وهم ليسوا فقط رجال أعمال، بل هم شرطيون أيضًا وضباط جيش وقضاة وإعلاميون وساسة وشخصيات عامة، فإن نتائج هذا الصراع لن تعجب الطرف الأول، لأن رجال مبارك هم الأكثر خبرةً والأكثر كفاءةً.
ثالثًا: الأحزاب أيضًا المدججة بالشباب هي الأخرى مسمار في رأس السيسي، فميول هذا الشباب العاطفي للثورة لا يحكمه انتماء لحزب أو تيار سياسي، وحتى ولو كان منغمسًا في العمل السياسي لصالح السلطة وإن اتخذ ذلك أشكالاً عديدة، فأحيانًا تلك المعارضة لا تكون إلا دور في إطار أجندة السلطة لتسيير المرحلة.
غير ذلك أن الأحزاب خلقت أصلاً للمشاركة في السلطة بكثير أو قليل، وهو ما لا يقبله وما كان ليقبله السيسي، وأغلب الظن أن تأخير هذا الاستحقاق المهم من استحقاقات خارطة الطريق يرجع إلى أن السيسي يتمنى لو أن هذا البند من البيان تأكله القوارض كما فعلت في صحيفة شعب أبي طالب، ولكنه بما أنه آت لا محالة، وبما أنه لا قروض من صندوق النقد من دون انعقاد البرلمان، فقد كان تأجيله لترتيب أفضل مناخ تتم فيه الانتخابات بأقل الأضرار.
الأكثر خطورة أن كل حزب من هذه الأحزاب يجر خلفه علم من أعلام المال والأعمال في مصر، وشبكة كبيرة جدًا من المصالح على نطاق واسع، وهذا المجتمع البرجماتي ليس ظريفًا بالنسبة للسيسي.
إذا، إن أمر هذه الانتخابات برمته ليس محببًا إلى نفس السيسي، لأنه سيشاركه سلطته المطلقة التي استخدمها بالكامل لمدة عامين، أصدر فيها القوانين وعدل على أخرى، وأقال حكومات وعين أخريات، وأطلق مشاريع وصدق على ميزانيات، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
أما الآن وقد صار للسيسي غريم، تتكشف لنا عورة الرجل وهي أن ليس معه أحد إلا لأنه على رأس السلطة ويمتلك القوة التي تضعه في موضعه، أما لو أن هذه الأدوات التي يتوكأ عليها اختلت، فما من أحد سيحرص على بقائه، وبالتالي، عليه أن يطرح المقدمات التي تحفظ له حقوقه الإلهية في الحكم منفردًا، ولا تجعل لأي خلاف مالي أو سياسي تأثيرًا على فرماناته النافذة.
نعود للسؤال مرة أخرى، هل السيسي سعيد بضعف الإقبال؟
أذكر في الانتخابات الرئاسية، كانت اللجان خاوية هكذا، ولكنها كانت حشودًا في استفتاء الدستور، بتعبير أدق، أظهر الإعلام انتخابات الرئاسة على أنها فضيحة، وأصر على إظهار اللجان وهي خاوية، بل كانت حالات الذهول والهيستيريا مبالغ فيها، بينما كان الاستفتاء على الدستور منذ أيام قليلة، وكان السرور بالأعداد سيد الموقف، ما الذي حدث؟
لو قارنا النتائج التي تحدث عنها المتابعين للانتخابات بخلاف المعارضين وكذلك اللجنتين المشرفتين على عملتي التصويت فإن عدد المشاركين الانتخابات الرئاسية تقريبًا نفس عدد المشاركين في الاستفتاء، إن لم يكن أكثر قليلاً، وسأستشهد هنا بمقولة أحد الإعلاميين الظرفاء الذي ظهر منذ أيام قليلة ليقول “إنهم – يقصد الإعلاميين – يستطيعون أن يقلبوا الحق باطلاً والباطل حقًا”.
ما حدث للسيسي في هذه المرحلة هو تقليم أظافر مبكر، كشف الغطاء الشعبي عنه بالكامل، ليظل عالقًا في خندق الشرعية، حتى إذا ما ساءت الأحوال، قد يضطر من دبر لهذا، وأقصد هنا رجال الأعمال المتحكمين في الإعلام والإعلاميين، أن يزيحوا السيسي كما فعلوا مع سابقه، فيكون عاريًا من أي شرعية أو غطاء جماهيري يمكنه التشبث به كما هو الحال مع المعزول المسجون.
الآن السيسي يتم خنقه مجددًا بحبل البرلمان المستحق لدى – مجازًا – الشعب، فكيف سيحلحل من ضيق هذا الخناق المورودة في النقاط الثلاث السابقة؟
أولاً، فقد عمد النظام إلى خلخلة الأحزاب وإضعافها وإذهاب تأثيرها في الشارع، وهذه اللعبة القديمة التي مورست على فصائل الثورة من الإخوان وسواهم، بأن قام المجلس العسكري باستقطاب الإخوان بعيدًا عن الجميع ليفترسها قاصية، ومن ثم يؤلب الجميع على بعضهم البعض وبهذا يتفرق جميعهم ويتفرق أيضًا من كانوا وراءهم.
ثانيًا، لم يكتف العسكريون بتكفير الناس في الثورة والديمقراطية، بل كفروهم في السياسة وفي الحياة، حتى تكون الأحزاب هي الأخرى عارية مكشوفة من الداخل يمكن تطويعها أو اللعب في تكوينها.
عملية الاستقطاب هذه المرة كانت داخل الحزب الواحد و الحركة الواحدة، وقوع أفراد هذه التجمعات في المفاضلة القاتلة بين إيثار السلامة وموالاة السلطة واتباعها اتباعًا كاملاً، أو أن نحتفظ بما تبقى من ماء وجهنا، الخيار -إن استطعنا تسميته خيارًا – محسوم بالنسبة لفئة معينة من المنشغلين بالسياسة، ومتذبب لدى آخرين، فلو أن السيسي استقطب هؤلاء وأعرض عن هؤلاء، يكون بذلك قد غربل العمل السياسي الحزبي من أي مظهر سياسي أو حزبي، وقطع الطريق أمام أي أفكار قد تكون معارضة يومًا.
وصار أمام المتحزبين أن يقبلوا بأن يكونوا عرائس في فاترينة عسكرية تسمي نفسها قائمة انتخابية، كل ما هو مطلوب منها أن تعوي كلما اقترب أحدهم من قرارات وقوانين السيسي، ليكون البرلمان المقبل “رايخ” جديدًا، وقد بدا ذلك جليًا في تصريحات أمين قائمة “في حب مصر” العسكرية، سيف اليزل، الذي قال صراحة إن من أهداف تلك القائمة الحد من سلطات البرلمان وتوسيع سلطات الرئيس، وتعديل مادة في الدستور تخص مراجعة قوانين أصدرت قبل انعقاد البرلمان وأشياء مثل ذلك.
اختفاء الأحزاب يعني اختفاء رجال الأعمال من البرلمان فقط على الأقل، وأن أي تعارض في المصالح لن يمس القوانين والقرارات التي أصدرها السيسي قبل الانتخابات، ولذلك فإن المشهد تغلب عليه الفردية، وهذا مريح بالنسبة للسيسي، ولكن المنافسين على مقاعد الفردي هم رجال أعمال أيضًا وأصحاب مصالح منذ دولة مبارك، وهؤلاء أمرهم سهل.
تكفير الناس بالسياسة كان السلاح الأول الذي وجهه السيسي في وجه هؤلاء، أضف إلى ذلك إغراق الانتخابات بآلاف مؤلفة من المرشحين، مما سينهك قوى الكبار للسيطرة على أكبر عدد ممكن من الأصوات – إن وجدت – وسيجعل مرور أحدهم إلى داخل البرلمان أمرًا شاقًا جدًا، وسيكون عددهم قليل بالمقارنة مع القوائم الكبيرة التي تسعى للاستحواذ على الأغلبية المطلقة.
هذه الإجراءات تصب في صالح حزب النور، نحن أيضًا لم نقض على مشكلة الفرديين بالكامل، لأن حزب النور له كتلة صلبة سيظهر تأثيرها بجلاء مع قلة أعداد الناخبين، وهنا يبدو أن سيف اليزل لم يترك شيئًا للحظ، فقد صرح في الحوار نفسه أنه سيسعى لضم بعض الفرديين الذي نفذوا إلى قبة البرلمان إلى ما أسماه “رؤية القائمة” وليس برنامجًا، فعلى ما يبدو أن مرور عدد من المرشحين السلفيين لا بأس به إلى مقاعدهم أمر لا مفر منه، ولكن هذه المسألة يمكن تلافيها فيما بعد، وما يخشاه السيسي من مسألة السلفيين، هو تواجد اللُحى تحت القبة وإظهار هذا الطابع الديني المقيت لدى الغرب في المشهد السياسي، غير ذلك، ومع قلة عددهم على أي حال، فلا قلق.
أخيرًا، فقد رأينا برلمانات حُلت، برلمان 1984، وبرلمان 2011، وكل منهم كانت له ثغرة يُحل منها، وفي المرتين كان الوضع الدستوري هو تلك الثغرة، وفي المرتين تشبث النواب بما يسمى “الإرادة الشعبية”، فأما الوضع الدستوري فهذا أمر يسير، فهم يكتبون الدساتير ويفسرونها ويعدلونها، أما الإرادة الشعبية، فهو ما نزعه السيسي عن البرلمان، كما تم نزعها تمامًا عنه عند انتخابه رئيسًا، إذ ربما تخفق كل تحركاته السالفة، فيلجأ إلى إعادة اللعبة من جديد.