للجهل فضائله، وإحدى تلك الفضائل لم تتوقعها الناقدة الكبيرة تابيثا “ليندساي دونكان” وهي تشاهد العرض الافتتاحي للمسرحية التي جاءت خصيصًا من أجل تحطيمها وتحطيم كل ما تمثله، لقد علمها ريغان ذلك الممثل الدخيل على الفضاء المقدس، أنه بإمكان أمثاله من الجهلة أن يقدموا لمسرح البرودواي ما يحتاج إليه من دماء، صحيح أنه سليل شباك التذاكر، صحيح أنه نتاج الصناعة الهوليودية المزيفة، لكن ربما كان ذلك حافزًا لتجاوز نفسه، وتعميد اسمه كمؤسس لتيار فني جديد يمكن تسميته بـ “الواقعية الفذة”.
هذا تصنيف جديد، والنقاد من أمثال تابيثا، يعشقون التصنيفات، ربما لم تفكر حين كتابة هذا المقال، أن تزور ريغان في المستشفى بعدما رأت دماءه تتناثر على أرض المسرح الذي تقدسه، هذا لا يهم، المهم أنها ظفرت بما لم تتوقعه: تصنيف فني جديد!
صديقه المنتج أيضًا ظفر بما يريد، صفقات كثيرة بانتظاره من أجل عرض المسرحية الجديدة، الجميع يكتب عن ريغان أخيرًا، ربما لأول مرة منذ زمن بعيد، يرى اسمه على صحيفة من دون التساؤل عن موعد جزء جديد من أفلام الرجل الطائر بيردمان.
يهرع الصحفيون نحو غرفته بالمستشفى، يتسابقون للظفر بأولى صوره بالضمادات، فهذا خبر دسم ولا شك، ربما تذكر آنذاك تلك الصحيفة اليابانية التي أجرت معه مقابلة في كواليس المسرحية، كانوا يريدون أن يعرفوا إن قام بعملية تجميلية باستعمال شحوم الخنزير، أو يبدو أن شخصًا ما في تويتر أراد معرفة ذلك، طبعا لم يحدث، لكن لماذا يصرون على الحديث عن ذلك؟ هو يريد أن يتحدث عن مسرحيته الجديدة! اابنته أيضا ألتقطت له صورة لتضعها على تويتر، من هو تويتر هذا؟ لماذا يحدد مصائر الناس ويقتحم حياتهم بهذه السطوة؟
هل تويتر أيضًا من قرر أن شباك التذاكر لن يستقبل إلا الأبطال الخارقين؟ الجميع اليوم يبحث عن رداء يضعه على ظهره، حتى أنه لم يجد ممثلاً جيدًا لمسرحيته، لم يعد أحدٌ يعرفه في الشارع إلا أولئك العجائز الذين شهدوا يومًا بطولاته في سلسلة الرجل الطائر، لم يعد إلا ذكرى جميلة للرجل الطائر، أما عند النقاد فهو ذكرى سيئة، وبين هذين اللقبين، سيحاول أن يثبت وجوده على مسرح البرودواي، بعمل جاد.
أحدثكم عن فيلم بيردمان “الرجل الطائر” أو فضيلة الجهل غير المتوقعة، حيث يجاهد نجمٌ هوليوديٌ منسيٌ أن يعيد لنفسه الاعتبار بعيدًا عن دور البطل الخارق الذي اشتهر به، بل على فضاء مسرح البرودواي في قلب نيويورك، لم يكن اختيار الممثل مايكل كيتون للعب دور ريغان أمرًا عبثيًا، أولئك الذين عرفوا سينما الثمانينات والتسعينات يعرفون جيدًا هذا الرجل، لقد كان نجم الشباك من خلال شخصية باتمان أو الرجل الوطواط، الآن لنتخيل ما يمكن أن يفكر فيه ناقد سينمائي وهو يدخل للعرض الافتتاحي لفيلم من بطولة هذا الرجل ويحمل اسم “الرجل الطائر”، أجل .. ربما يفكر بنفس طريقة الناقدة تابيثا التي يتحدث الفيلم عنها، صانعًا دون أن يشعر ما يبحث عنه المخرج من محاكاة الفيلم بالواقع، لقد عانق المخرج أليخاندرو إنياريتو سقف السخرية باختياره هذا، لكنه يتمادى في السخرية طوال الفيلم من كل شيء تقريبًا: الممثلون، المخرجون، المنتجون، النقاد، الجمهور، الإعلام.
يمكن اعتبار فيلم بيردمان أو الرجل الطائر صفعةً ساخرة من كيفية تطور صناعة السينما في هوليود، إن التطور الملفت الذي تشهده هوليود أفرغ العملية السينمائية من كل معنى، لقد صارت الشبكات الاجتماعية هي المتحكم الرئيسي في الرأي العام، تفرض عليه اهتمامها بكل شيء يحيط بالفن عدا العمل الفني نفسه، صناعةُ الأبطال الخارقين هي التجارة الرابحة هذه الأيام، حيث توفر لك التكنولوجيا الرقمية الجهد والتعب، طرطق أصابعك ليحدث على الشاشة ما تشاء من الانفجارات والدماء والشظايا، هذا ما يريده الجمهور في النهاية، لم يعد من حاجة للممثل إلا أن يختفي خلف قناع ما، ثم يظهر بوجهه الوسيم لالتقاط الصور.
لا يتحدى إنياريتو ومن خلفه مدير السينوغرافيا العبقري لوبزكي، مخرجي أفلام الكوميكس ومنتجيها، بتصوير مشهد الأكشن الذي ظهر فجأة في قلب المدينة أو في عقل بطلنا ريغان المضطرب، لأنهما يتعاليان عن المقارنة، هما فقط يسخران من سينما اليوم، أو ربما يسخران من آليات تقييم السينما اليوم، تلك التي تجعل أعمالاً بسيطة تحقق نجاحًا جماهيريًا منقطع النظير، وتطيح بأعمال مرهقة في قرارة الفشل التجاري، ومثلما أشارا إلى دور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في ذلك، فهما يركزان أكثر على محدودية الرؤية البشرية للعمل الفني، فقدرةُ المُشاهد على التأمل والتفكير محدودة، كأن السينما كتسلية تعني وجوبًا تنويم المخ إلى حين، ولأن إنياريتو كما رأينا من خلال انتقائه لمايكل كيتون، يعمل في مشروعه على محوريْن متوازيين: الفيلم كمضمون ناقدٍ والفيلم كنموذج لهذه العملية النقدية، فإنه يكاد يجزم أن فيلمه هذا لن يحقق النجاح المطلوب، لأنه فيلم جيد ومرهق، فلم يشفع لبيردمان فوزه بأوسكار أفضل صورة ليحظى بشعبية أكبر.
أما إنياريتو فيستمر في حيله الماكرة، يقدم للمُشاهد من خلال قصة ريغان وكفاحه من أجل إنجاح عرضه المسرحي، كواليس العمل الدرامي، ذلك الجزء الغامض الذي لا يراه المُشاهد ولا يعير له انتباهًا، يكشف لنا المخرج المكسيكي عن خفايا العمل الدرامي، يتحول الفنان من ساحر يتقمص دورًا على الركح، ثم يعود إلى طبيعته التي نراها في التلفاز وفي الصحف، إلى بشر مكافح يعيش دراما حقيقية مثل الآخرين، يصبح فتاة تفتقد إلى الثقة بنفسها وهي تعتلي الركح لأول مرة (ناعومي واتس)، ويصبح رجلاً يفعل كل شيء من أجل الحفاظ على صورة جميلة واسم ذائع الصيت (إدوارد نورتن)، ربما يرهن كل ما يملك من أجل عمله القادم، أو ينسى في غمرة فزعه من النسيان، أن له ابنة مراهقة تحتاج إلى الرعاية.
يقدم فيلم بيردمان هذه الصورة الميلودرامية للكواليس، ليدعوَه أن ينتبه، أن يفهم أن هؤلاء الذين يسمون فنانين، ليسوا مثل الأبطال الخارقين الذين يختفون أحيانًا خلف أقنعتهم، بل لعلهم يختفون خلف أقنعة الأبطال الخارقين، لإيهام أنفسهم بقوة زائفة، إن الفنان بشر في نهاية الأمر، ربما يبحث عن الشهرة، وربما يبحث عن المال، لكنه أيضًا يعمل لأنه لا يجيد فعل شيء آخر، هكذا بكل بساطة، لقد قدم إنياريتو للمشاهد ما خلف الستار لينتبه إلى ماوراء العمل الدرامي ككل، ثم قدم الفيلم نفسه كنموذج للمجهود الخفي، وذلك من خلال إبرازه لعمل الكاميرا طيلة الفيلم.
يمكن اعتبار الكاميرا في فيلم بيردمان البطل الحقيقي، ولا يبدو أن هناك من شكك في جدارة مدير السينوغرافيا إيمانويل لوبزكي بالأوسكار، سيلحظ كل من شاهد هذا الفيلم عمل الكاميرا الفذ من خلال انسيابها مثل الماء في كواليس المسرح النيويوركي الجميل، تتابع ما يحدث لريغان وزملائه وأحبائه وأعدائه، للكاميرا أهواؤها المنفردة، فهي أحيانًا تتخلص من متابعة هذا، لتعرج بحثًا عن ذاك، أو ملتفتة لما يحدث لآخر، للكاميرا أهواؤها المنفردة، وهي بتنقلها الحر اللافت للانتباه، تصنع للمشاهد، جملة الميلودراما التي تحدث في الكواليس.
لقد عرى إنياريتو كل شيء تقريبًا، عرى عمل الممثلين، اختلاف رؤاهم، سخر منهم، أحبط كل ما توقعناه من عبقريتهم، لا يوجد عبقري يرتجل الأشياء بحسب ما يمليه الموقف، إنهم جميعًا يحفظون نصوصهم، عرى الضغوط المفروضة على المنتج، إذعانه للصحافة، تملقه للمستثمرين وشركات الإنتاج، عرى عمل المصور، والمونتاج، فجعل كامل الفيلم يبدو كأنه مشهد واحد، في عملية استعراض عضلات آتت أكلها، بل عرى الموسيقى، فجعل من الموسيقى الإيقاعية التي ضبطت نسق الفيلم، عنصرًا من عناصر الفيلم نفسه، ورأينا عازف الإيقاع مرة في شارع جانبي في نيويورك ومرتين داخل كواليس المسرح نفسه، لقد عرى كل شيء حتى يكشف عن عبث العمل الفني بمقاييس هذا العصر الجديد. ربما لذلك جاء الفيلم ساخرًا بأكثر مما جاء دراميًا، إن إنياريتو لا يبكي وضع الدراما بقدر ما يسخر ممن أدى بها إلى هنا، وهو لا يحاول الانتصار للممثل بقدر ما ينبهه إلى ما ينزلق إليه.
في النهاية، يبدو لي أن هناك خطأ ما في قراءة العنوان، إن “أو” التي تفصل بين “بيردمان” و”فضيلة الجهل غير المتوقع” لا تعني أننا أمام مرادفين، بل أننا أمام متضادين، فالممثل اليوم، إما أن يكون “رجلاً طائرًا” يحظى باحتقار النقاد ونجومية شباك التذاكر، وإما أن يكون “جاهلاً” يظفر بمفاجأة النقاد بما لا يتوقعونه منه، مرة أخرى، تظهر عبقرية إنياريتو وحيلُه الشيطانية إزاء هذا العنوان الطويل الذي فضل الجميع فيه جزء “الرجل الطائر”!
الاسم: Birdman or The unexpected Virtue of Ignorance
المدة: 119 دقيقة
السنة: 2014
المخرج : أليخاندرو إنياريتو
البطولة: مايكل كيتون، إيما واتسون، إدوارد نورتن، ناعومي واتس، أندريا رايزنبورغ.