بعد مرور ما يقارب الشهر على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، يمكن القول بأن حجم العملية الروسية ونوعيتها، وبالتالي أهدافها الأقليمية والدولية، أصبح أكثر وضوحاً. نقل الروس عشرات الطائرات القاذفة والاعتراضية إلى قاعدة اللاذقية الجوية، كما وضعوا عدداً من الدبابات الحديثة في القاعدة، التي بات يديرها ويحميها عدة مئات من الفنيين والطيارين والجنود الروس.
أن تستخدم موسكو هذه المناسبة لاختبار عدد من معداتها العسكرية، فهذا ليس مستغرباً؛ فالحروب هي الساحة المثلى لامتحان تقنيات الحرب. ولكن، وبصورة عامة، لا يوحي التواجد الروسي العسكري في قاعدة اللاذقية، حتى الآن، بانتشار بري ومشاركة قوات النظام وحلفائه من الإيرانيين وحزب الله في القتال على الأرض.
ما يوحي به هذا التواجد أن الروس يعملون، على المستوى العسكري، على توفير قوة نيران إضافية للقوات المنهكة التي تدافع عن النظام ووجوده، بعد أن تعرضت لانتكاسات كبيرة في النصف الأول من هذا العام. هذا لا يمنع، بالطبع، من مشاركة روسية في القتال البري، ولو بصورة محدودة، في المستقبل، إن تزايدت الأدلة على عجز قوات النظام وحلفائة عن إحراز تقدم ملموس في جبهات القتال.
وبالنظر إلى الرفض الروسي المتكرر لتسوية سياسية في سوريا تقوم على استبعاد بشار الأسد ومجموعة الحكم الصغير الملتفة حوله، فالواضح في هذه المرحلة المبكرة من العملية الروسية، أن موسكو تسعى إلى الحفاظ على نظام الأسد. يمكن تحقيق هذا الهدف في سقفه الأعلى، أي مساعدة النظام على استرداد سيطرته، وإن تدريجياً، على كافة الأراضي السورية، أو على معظمها على الأقل. الخيار الثاني، في حال أظهرت قوات النظام عجزاً عن تحقيق هذه المهمة على الأرض، هو حماية ما أطلق عليه الأسد مؤخراً «سوريا المفيدة»؛ أي دمشق الكبرى، منطقة الأغلبية العلوية في الساحل، والشريط الريفي المحاذي لها في وسط البلاد. في هذه الحالة، سيعمل الروس، على الأرجح، على تبلور وضع تصبح سوريا فيه مقسمة بين منطقة نفوذ للنظام، وأخرى لداعش.
ادعاء موسكو بأن هدف مشاركتها المباشرة في القتال هو القيام بمهمة هزيمة داعش (التي يقول الروس أن الأمريكيين فشلوا فيها) هو ادعاء لا تؤيده الوقائع على الأرض منذ بدء العمليات الجوية الروسية في نهاية ايلول/سبتمبر. بمعنى، أن الروس قد يتوجهون نحو إضعاف قوى المعارضة المسلحة، وتسهيل انتشار داعش في أنحاء البلاد، بحيث تصل سوريا إلى مرحلة يرى فيها العالم خياراً واحداً فقط: النظام أو داعش، بعد أن تسحق إرادة الشعب السوري، الرافضة لنظام الأسد، والممثلة في المعارضة المسلحة.
فما هي دوافع الروس، إذن، للاندفاع بهذه الصورة للمشاركة المباشرة في الصراع على سوريا؟ في إحدى جوانبها، تشمل هذه الدوافع اعتبارات إقليمية بحتة. فسوريا هي الدولة الوحيدة التي يحتفظ فيها الروس بنفوذ حقيقي في حوض المتوسط، حيث القاعدة الروسية البحرية في طرطوس ومراكز التنصت الفائقة في جبال اللاذقية. وبتدهور وضع النظام العسكري في الشهور القليلة الماضية، أصبح مستقبل الأسد مرهوناً إلى حد كبير بالتسليح الروسي، والدعم الذي يتلقاه من إيران والقوى الشيعية المساندة. التواجد الروسي العسكري بهذا الحجم والنوعية سيؤكد موقع روسيا في سوريا لعقود طويلة قادمة، ويؤمن موطىء قدم نادر للروس في الشرق الأوسط وحوض المتوسط.
ولكن دوافع روسيا الدولية، وما يتعلق منها بعلاقة روسيا المتوترة بالغرب وموقع روسيا على المسرح العالمي، هي الأهم. ولذا، فلابد أن ترى العملية الروسية في سوريا من جهة تعبيرها عن أزمة وعن فرصة في الآن نفسه. تعبير عن أزمة لأنها تأتي في وقت بالغ الحرج بالنسبة لنظام دمشق، وتعبير عن فرصة لأنها أتاحت لموسكو، منذ بداية تفاقم الوضع في سوريا، ساحة لتوكيد دورها كلاعب على المسرح العالمي يجب أن يؤخذ من قبل الغرب في الاعتبار، وأن ينظر إلى مطالبه وحاجاته نظرة جادة. بدأ بوتين في اتباع سياسة إعادة التوكيد على موقع روسيا ودورها في العالم منذ الأزمة الجورجية في صيف 2008، بعد أن شعر بتعافي روسيا الاقتصادي والمالي والدفاعي. ولكن إدارتي بوش وأوباما استمرت في التعامل مع روسيا باعتبارها قوة ثانوية. فسواء في سياسة توسع الناتو شرقاً، أو في نشر الصواريخ المضادة للصواريخ، وصولاً إلى سيطرة الغرب على أوكرانيا، بكل ما تحمله من دلالات تاريخية ودينية واستراتيجية للأمة الروسية، أظهرت الولايات المتحدة والدول الغربية تجاهلاً لمطالب موسكو وضروراتها. وإلى جانب ذلك كله، يرى بوتين في عقيدة نشر النظام الديمقراطي بصورته الغربية، التي تجلت في العراق وليبيا وسوريا، وغيرها، خطراً داهماً على حلفاء روسيا في آسيا الوسطى، بل وعلى استقرار روسيا ذاتها. وهذا ما عبر عنه الرئيس الروسي بلغة صارخة في خطاب الجمعية العامة الأخير.
بكلمة أخرى، تمثل سوريا لحظة فاصلة في تصور بوتين للعالم، وفي رؤيته لمصالح روسيا المتوسطية ودورها وموقعها على المسرح العالمي.
الآن، لم يكن خافياً في ردات الفعل على العملية الروسية أن ثمة من بدأ في الاحتفال، سيما في إيران والدوائر الشيعية المرتبطة بها، كما في دوائر الثورة المضادة العربية، متصوراً أن التدخل الروسي لن يلبث أن يحسم الموقف، ويعيد نظام الأسد إلى ما كان عليه. وهناك، في المقابل، من يحسب أن بوتين يعيد خطأ التدخل الروسي في أفغانستان، وأن سوريا سرعان ما ستتحول إلى أفغانستان عربية على ساحل المتوسط، ومقبرة للروس. الحقيقة، أن على المحتفلين التواضع والانتظار قليلاً؛ وعلى من يريدون تكرار السيناريو الأفغاني في سوريا أن يدركوا أن التاريخ لن يعيد نفسه وأن هذا ليس زمن الحرب الباردة.
الأرجح، أن بوتين لن يكرر كارثة الاتحاد السوفياتي الأفغانية والذهاب إلى التورط الشامل وواسع النطاق في سوريا؛ كما أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، على أية حال، لا على مستوى المقدرات العسكرية والبشرية والاقتصادية، ولا هي على جوار لصيق بسوريا كما كان الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. وبالرغم من أن موسكو تبدو وكأنها تخطط لتواجد طويل المدى في سوريا، فهذا التواجد سيظل ضمن حدود معينة. ولكن، ومن جهة أخرى، ليس ثمة ضمانة لتحقيق الأهداف الروسية في سوريا؛ بل وإن إفشال الروس لن يكون صعباً ولا معقداً. صحيح أن السعودية تخوض حرباً صعبة في اليمن؛ وأن تركيا تعتمد بصورة كبيرة على مصادر الطاقة الروسية؛ وأن الأوروبيين لا يرغبون في تحمل أعباء تصعيد التوتر مع روسيا؛ وأن إدارة أوباما لم تنظر إلى سوريا قط، ولا إلى الشرق الأوسط ككل، باعتبارها أولوية لها. ولكن التدخل الروسي على هذه الصورة رفع مستوى الرهانات في الأزمة السورية، وهو ما سيدفع المؤيدين للثورة السورية إلى الرد. ليس من الضروري أن يشمل هذا الرد تورطاً عسكرياً مباشراً على غرار التورط الإيراني والروسي؛ فالقوى المسلحة للشعب السوري قادرة على التصدي لمحاولات تغيير موازين القوى في أرض المعركة. ولكن المطلوب هو تسليح أفضل لقوى الثورة السورية، ومساعدة هذه القوى على بناء إطار سياسي ـ عسكري، يمثل كافة شرائح الشعب السوري ويمنع محاولات تحويل داعش إلى ما يشبه الممثل الوحيد للثورة السورية.
في النهاية، يشكل التدخل الروسي المباشر حلقة جديدة تماماً في الأزمة السورية، سيزيدها تعقيداً بلاشك. ولكن هذه الحلقة لم تزل في بدايتها، في أسابيعها الأولى، ومن المبكر جداً الجزم في النتائج التي يمكن أن تنجم عنها، لسوريا وللأقليم ولروسيا نفسها.