أثير بيني وبين صديقٍ لي منذ فترة نقاش حول الرسائل والمنشورات التي تحتوي مضمونًا علميًا ودينيًا في آنٍ واحد، والتي أصبحت تكتسب زخمًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واتساع قاعدتها الشعبية، وكيف أن هذا النوع من المنشورات يلقى صدىً واسعًا واهتمامًا كبيرًا من قِبل مرتادي وسائل التواصل هذه، تطرقنا خلال الحديث هذا عن مضمون هذه المنشورات العلمي ومدى مصداقيتها، ومع تأكدنا أن أي إنسان يحمل علمًا في أي تخصص ويحترم هذا العلم الذي يحمله لا يمكن أن يصدق حرفًا مما يُكتب في مثل هذا النوع من المنشورات ولكن استغرابنا زاد عند ملاحظتنا كمية الإقبال على مثل هذه الأكاذيب ونشرها.
أسس صديقي فيما بعد مع رفقةٍ له مبادرةً إلكترونية على الـ “فيسبوك” هدفها التحقق من كل ما يُكتب وينشر في وسائل التواصل هذه، ولاقت المبادرة نجاحًا طيبًا واستطاعت دحض الكثير من هذه الأكاذيب وتوضيح مكمن الخلل فيها، ولكن في الحقيقة فإن هذا ليس ما كنت أريد الكتابة عنه بالتحديد.
فمن خلال المزيد من البحث الذي قام به الرجل لفت نظري لأحد الدعاة المشهورين الذي يمتهن “الإعجاز العلمي في القرآن والسنة”، ولكن كان ما يقوم به هذا الرجل في الحقيقة هو البحث عن آياتٍ قرآنيةٍ أو أحاديث نبوية أو أحكام شرعية ثم شرحها بتفسير معين يفسرها به ولم يسبقه به أحد كي يوهم قرّاءه ومستمعيه أن تفسير هذا النص الديني يتوافق مع فرضية علمية في أي مجال من مجالات العلوم الطبيعية.
قد يتهمني البعض بأنني أبالغ، ولكن الحقيقة بالفعل أسوأ من ذلك، فمن خلال المزيد من البحث وجدت بعض الطوامّ التي ينشرها هذا “الداعية” وطوامٌّ أخرى ينشرها “داعيةٌ” آخر يمتهن الأمر نفسه، ولكن هذه الطوام ليست محاولة موالفة بين نص ديني ونظرية علمية بل هي في الحقيقة تأليف واختراعات وادعاء اكتشافات علمية ليس لها أيُّ صلةٍ بأي نوع من أنواع العلوم لا من قريب ولا من بعيد.
كلا الأمرين حقيقةً خطير، ففي الحالة الأولى يحاول الداعية أن يجد صلةً ما بين فرضية علمية كي يربطها بآيةٍ أو حديثٍ أو حكمٍ ما، ويتناسى أنه ينسب حقيقة دينية لفرضية علمية، وأن الفرضية قد يتم دحضها في المستقبل بسهولة، وأن ما نعتبره صحيحٌ علميًا اليوم قد نكتشف أنه خاطئ تمامًا في المستقبل، ومما سيترتب على ذلك أن الخطأ سينسب إلى النص الديني أو الحكم الشرعي وهذا مما يتعارض مع إيماننا المطلق كمسلمين بصحة ديننا وصحة نصوصه ومصادره، ولو سلمنا بحسن نية من يفعل هذا ولكننا لا يمكننا أن نجعله بمعزلٍ عن تحمل التبعات الخطيرة التي ستترتب على هذا الأمر.
أما في الحالة الثانية (وهي الحالة الأخطر) فإننا نجد أنفسنا أمام كذبٍ صريح بواح، فحتى الفرضيات التي يتم سردها من قِبل هؤلاء “الدعاة” على أنها حقائق علمية هي مجرد أكاذيب لا يمكن تحديد مصدرها بالتحديد، ولسنا هنا في مقام سرد أمثلة على هذه الأكاذيب التي لا تمت للعلم بصلة، ولكن الخرق اتسع على الراقع بالفعل والأكاذيب التي تنشر باسم الله والدين أصبحت كغثاء السيل.
في تحليلي للموقف وجدت أن هؤلاء الدعاة انتشروا وأن هذه القضية تلقى رواجًا بسبب طبيعة العقلية الجمعية التي تتمتع بها مجتمعاتنا العربية، نحن في الغالبية مسلمون بالفطرة، ونؤمن بصحة ديننا وسلامة معتقدنا، ولكن إيماننا في الحقيقة إيمانٌ جامد، أو بالأحرى إيمانٌ ساذج، إيمانٌ يتعلق بعواطف واهية وأكاذيب ملفقة كي يطمئن النفس ويريحها ويجعلها بمعزل عن التفكر والتدبر والعمل الذي يحث عليه الإيمان الحقيقي، ومما عزز على انتشار هذه الظاهرة كذلك بالإضافة لضعف الإيمان هو استهداف الإسلام والمسلمين المتكرر في وسائل الإعلام، هذا الاستهداف وهذه الإسلاموفوبيا ولدّت شعورًا لدى كثيرٍ منا بالهزيمة النفسية الداخلية التي تجعل من هذه الأكاذيب قشة يتعلق بها الكثير من الغرقى والتائهين متوهمين أنهم سوف يصلون بها إلى بر الأمان.
لا يمكن أن ننسب الغالبية العظمى من هذه الخرافات إلى أي علمٍ فضلًا عن أن ننسبها إلى الدين، فأغلبها يعتمد على مصادر مجهولة وأسماء غير معلومة، إذ يحرص من يكتب مثل هذه الأكاذيب أن يقطع الطريق على أي متتبعٍ لخطواته فيسعى لاختراع أسماء من يفترض أنهم علماء أجانب “وهذا من ضمن عقدة الأجنبي التي ابتلينا بها في هذا العصر” كي يُكسب القارئ المزيد من الثقة حال قراءته لهذه الخرافات.
وهنا أريد التنبيه على قضية مهمة، فكوني أنتقد ما يفعله هؤلاء الدعاة لا يعني بالضرورة تكذيب ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من حقائق علمية، هذه الحقائق العلمية وردت بلسان عربي مبين ولا تحتاج إلى أساليب ملتوية في تفسير النصوص الدينية، لغة القرآن واضحة والقرآن ميسر للذكر والتفاسير منذ 14 قرنًا موجودة، فلا داعي ولا حاجة للتكلف واستدعاء فرضيات علمية غريبة أو مشكوك بصحتها وتلفيقها مع تفاسير غريبة لألفاظ اللغة العربية الواضحة في القرآن كي تشكل ما يحب هؤلاء أن يدعوه بالإعجاز العلمي.
فالقرآن الكريم – كما أسلفت – يتحدث عن بعض الحقائق العلمية البسيطة كي يذكرنا بعظمة الخالق ليس أكثر، فهو لم يأتِ ككتاب علمي ولا مرجع نرجع إليه في حال استعصت علينا حل المسائل العلمية، ولم يأتِ ككتاب ألغاز وأسرار يجب علينا الكشف عن ألفاظه، كما أنه لم يأتِ ككتاب تنجيم يطلب منا حل معادلات الأرقام فيه لنستطلع المستقبل، وإنما نزل القرآن وذُكرت هذه الحقائق العلمية فيه بهذه اللغة البسيطة لتكون دافعًا لنا على طلب العلم ومذكرةً لنا دائمًا بعظمة الخالق العليم وسعة علمه سبحانه لا أكثر.
أمرنا ربنا في القرآن بالسير والتفكر والتدبر، وذكر لنا حقائق بسيطة يفهمها الأمي بعقليته البسيطة قبل 14 قرنًا، وإعجاز القرآن العلمي الحقيقي واضح في آيات مراحل نمو الجنين مثلًا، أو في تذكير القرآن بحركة الأجرام السماوية، أو غير ذلك من الأمور البسيطة والواضحة والتي يستطيع الجميع فهمها.
القضية أصبحت تحتاج إلى وقفة جادة في وجه هذه الظاهرة المستمرة منذ حوالي العقدين تقريبًا، ومسؤولية الجهات الدينية والمرجعيات الشرعية مسؤولية كبيرة حيال هذه القضية، وأفضل حلٍ لهذا الرجل وأمثاله هو هجره من قِبل العامة تمامًا وعدم الاحتفاء به ولا بما يسوقه، نستطيع أن نقدر حجم المشكلة وخطرها عندما نعلم أن هذه المهزلة أصبحت بابًا واسعًا للهجوم على الإسلام من خلالها والإنترنت ملئ بمثل هذه الكتابات والمقاطع.
الله سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وأنزل القرآن الكريم بلغة مبسطة وسهلة وجعله يسيرًا للذِكر غنيٌّ عن إثبات ربوبيته وإثبات صدق رسوله وصحة دينه بمثل هذه الوسائل الرخيصة التي يتبعها من يظن أنهم يحسنون صنعًا وهم على العكس من ذلك تمامًا.