ما الذي يمكن أن يحدث لو تركنا ما نظن في صحته يشكل عملنا؟ ما الذي يمكن أن يحدث إذا فعلنا فقط ما نؤمن بصحته؟ ربما يتغير العالم، ربما لن يبقى أي شيء كما اعتدنا عليه، وأي شيء هذه تشمل مدننا ومدارسنا، مصانعنا وسجوننا، مشرعينا وقضاؤنا.
في حياتنا اليومية نقوم باتخاذ الكثير من القرارات على المستويين الشخصي والعملي، إلا أن المعايير التي نقوم على أساسها بالاختيار تختلف وفقًا للسياق الذي نقوم فيه بذلك، إذ إن قرار الطبيب فيما يخص علاج مريض ما يختلف إذا كان هذا المريض شخصًا غريبًا في المشفى، وإذا كان المريض ابن الطبيب أو زوجته مثلًا، غالبًا ما يعتذر الطبيب في الحالة الأخيرة عن علاج أقاربه ويوجههم إلى طبيب آخر غريب عنهم، يأتي هذا القرار من الطبيب لاحتمالية افتقاده للموضوعية والمهنية بسبب مشاعره الشخصية تجاه المريض.
نحن نتحدث هنا عنوضع يعتبر المثال السابق جزءًا منه، وهو المحاولة المستمرة للبشر للتحلي بالموضوعية والمهنية والاحترافية في كل ما يحدث خارج إطار حيواتهم الشخصية؛ وخصوصًا فيما يخص الحياة العملية والوظيفية.
إذ يستطيع المرء أن يزعم أن كل شخص هو شخص جيد على مستوى الحياة اليومية، إذ لا يبادر أغلب الناس بالاعتداء على جيرانهم أو كسر القواعد العامة بشكل مستمر وبلا سبب، يحفظ كل شخص قدرًا من الانضباط والمبادرة في الأحوال العادية اليومية، كما أن لكل شخص مجموعة من البشر الذين يحترمهم أو يحبهم أو يتعاطف معهم، وكل هذه خصال إنسانية جيدة ومحمودة.
إلا أن اختلاف السياق إلى الحياة العملية أو الوظيفية قد يتغير معه الكثير من السابق، إذ إن الشخص يبدأ في تنحية مشاعره وصفاته الشخصية جانبًا، وهذا في سبيل التحلي بالمهنية والاحترافية المطلوبة للأداء بأفضل الطرق الممكنة وأكثرها رشدًا، فنرى في هذه الحالة قدرة على اتخاذ قرارات قد تكون شديدة الصعوبة والخطورة، وقد تحمل هذه القرارات قدرًا ضخمًا من تضحيات وخسارة العديد ممن تتعلق بهم، فمن الممكن أن ينبني على قرار موظف ببنك بالحجز على بيت شخص عجز عن دفع دينه في تشرد هذا الشخص وأسرته، غالبًا لا يحمل الموظف الذي اتخذ القرار أي ضغينة شخصية للشخص المطرود من بيته، كما أن في سياق آخر يكون فيه هذا الشخص صديقًا أو جارًا لهذا الموظف لربما حاول الأخير مساعدة الأول بكل ما في وسعه.
يتخذ الموظف هذا القرار منطلقًا من كونه موظفًا بالأساس، لا انطلاقًا من كونه الشخص أو الإنسان الذي هو عليه، تأتي هذه القرارات وأمثالها كجزء من الحفاظ على النظام في الحياة اليومية، حفاظًا على كون الأشياء ما يجب أن تكون عليه.
يتجرد أغلب هؤلاء البشر اللطفاء من كونهم أشخاصهم في صباح يوم العمل لارتداء زي المهنية والاحترافية المناسب للعمل، ومع هذا التجرد يصبح من الممكن تخطي ما يعتبر ضعفًا من المشاعر الإنسانية كالود والحب والشفقة في سبيل إتمام المهمة على أفضل ما يكون.
في كتابها الأكثر إثارة الجدل والمعنون “آيخمان في القدس”، توصلت الفيلسوفة الألمانية اليهودية “حنا أرنت” عبر تغطيتها الصحفية لمحاكمة المقدم النازي أدولف آيخمان إلى مجموعة من الملاحظات شديدة الأهمية في هذا الصدد.
كانت الملاحظة الأكثر أهمية والأكثر إثارة للهجوم على أرنت هي أن آيخمان كان إنسانًا ككل البشر ولم يكن وحشًا يعبد الشر، قد تبدو هذه الملاحظة شديدة البديهية للقارئ، إلا أنه بالنظر إلى مسؤولية آيخمان عن ترتيب نقل قرابة ثلاثة آلاف يهودي بشكل يومي إلى معسكر اعتقال أوشفيتز عام 1944 يصبح من الممكن تفهم رؤية الكثير من الناس له كوحش قاتل.
كانت بداية ملاحظة أرنت للإنسانية الشخصية لآيخمان نابعة من الخوف الشديد الذي أظهره على طول محاكمته والتحقيق معه، أشار آيخمان إلى أنه وبرغم من عدم حبه الشخصي لليهود إلا أنه لم يتمن إبادتهم أبدًا، واستمر قائلًا بأنه كان ينفذ قرارًا قد اتخذه رؤساؤه، وأنه كان يقوم بأداء واجبه الذي أقسم على أدائه والإخلاص فيه كضابط بقوات النخبة النازية.
أكد آيخمان أكثر من مرة على أنه لم يقم سوى بترتيب الإجراءات والأوراق اللازمة لنقل اليهود في القطارات، وأنه لم يتخذ أي قرار بقتل أي شخص.
يمكن القول إن آيخمان أثناء ترتيب الإجراءات السابق ذكرها كان إلى حد كبير يقوم بهذا الفعل كضابط بزيه الرسمي، وكان يقوم بهذا الفعل منفصلًا إلى حد كبير عن مشاعره الشخصية، ولا يجب أن يعني هذا الانفصال أن آيخمان كان بالضرورة شخصًا حنونًا أو لم يكن ليقوم بفعل هذا وحده، بل يجب أن يعني أن آيخمان كان على هذه الحالة من الانفصال عن إنسانيته لضمان القيام بالمهمة المكلف بها في أفضل وأرشد صورة ممكنة.
وهو في هذه الحالة قد لا يختلف كثيرًا عن طبيب يمتنع عن علاج مريض لا يستطيع دفع أجر المستشفى لأن في هذا إخلال باحترافية الطبيب ومصلحته المهنية، أو موظف يتخذ قرارًا بهدم منطقة عشوائية بدون توفير بديل لسكانها فقط لأنها لا يجب أن تكون هناك.
يأتي هذا الفصل بين الإنسان ودوره المهني كجزء أصيل من فصل العقلية الاقتصادية الحداثية بين الحياة العملية والإنتاج وبين أي شيء يتعلق بالجانب اللاعقلاني من حياة الإنسان، كالدين والمشاعر وغيرها.
إذ يسمح هذا الفصل بنزع كل التكاليف والمعوقات غير اللازمة لعملية الإنتاج والكفاءة الاقتصادية، مما يجعل الأخيرين أكثر نجاحًا وإدرارًا للربح بكثير.
إلا أن كثافة الربح وتسارع التقدم التكنولوجي والمادي لا يعنيان بالضرورة تحسن حياة البشرية ورخائها بشكل عام، فقد أوضح لنا الواقع والتاريخ أنهما كانا يعنيان تحسن ورخاء بعض القطاعات من البشرية على حساب حياة قطاعات أخرى.
يستطيع المرء أن ينظر للنازية والرايخ الثالث على أنهما اللحظة النماذجية للفكر الحداثي، اللحظة التي طوعت فيها كل السبل لتحقيق الرؤية الحداثية للعالم في صورتها المكتملة لوهلة قصيرة، إلا أن هذه الوهلة التي لم تزد عن اثني عشر عامًا قد كلفت البشرية ملايين الضحايا، إما ضحايا قتلوا كجنود لا كبشر في أرض المعركة، أو ضحايا تم إعدامهم للظن أنهم عقبة في طريق تقدم البشرية وكمالها كاليهود والغجر وحتى المعاقين الذين تم اخصاؤهم لكيلا يلوثوا نقاء الجنس البشري.
هل سنستطيع في يوم من الأيام أن نبدأ كأشخاص في كلية البشر بصورها المختلفة أن نخرج من أسر هذا الفصل الحاد والعقلية التي تحكمه؟ تظهر أفعال كثير من البشر كل يوم تحديًا واضحًا لهذه الفصل وخروجًا من هذه العقلية لعدد لا متناهي من الأسباب، إذ يبدو أن ذاك الجزء الغامض الذي دفع ملايين البشر منذ بدأ الخليقة نحو التحرر من كافة القيود لم يزل هناك لسبب أو لآخر.