زيارة مفاجئة تلك التي قام بها الأسد بالأمس إلى العاصمة الروسية موسكو، في عرض دبلوماسي يحاول به إثبات شرعيته وحضوره كرئيس للنظام السوري الذي فقد ما لا يقل عن نصف الأراضي السورية، وفي لافتة تحاول بها موسكو من ناحيتها الضغط على الرأي العام الدولي لقبول الأسد في أي حل سياسي قادم، وإثبات موقفها المتمسك بالأسد أكثر من أي طرف آخر، وحتى أكثر من الإيرانيين، والذي يمتلكون في المنطقة حلفاء آخرين كحزب الله والميليشيات الخاصة بهم في سوريا كالشبيحة بشكل يغنيهم عن الأسد، في حين لا يملك الروس سوى جيش النظام السوري للإبقاء على وجودهم ونفوذهم.
الأسد هو الآخر متمسك بالروس هذه الأيام أكثر من سواهم، ومصيره يبدو معلقًا بمواقفها بشكل شديد، ولا يدلل على ذلك أكثر من إقلاع طائرته، لا من مطار دمشق والذي يعمل بشكل مستقر نسبيًا، ولا من مطار المزة العسكري كما جرت العادة أحيانًا، ولكن من مطار حميميم في محافظة اللاذقية على ساحل البحر المتوسط، وهو المطار الذي تحوّل مؤخرًا لقاعدة عسكرية روسية تدير العمليات الجوية التي بدأها الروس منذ بضعة أسابيع، إلى جانب القاعدة الروسية القديمة في طرطوس، والواقعة أيضًا على البحر المتوسط.
هو في حماية الروس إذن بعد أن كان الإيرانيون في وقت ما هم الأقرب له، ولكن أحداثًا عدة قد خلقت هوة بين جيشه النظامي والإيرانيين عشاق الميليشيات والتغلغل بأنفسهم، وهو ما أفقد بعض المحيطين بالأسد الثقة فيهم لا سيما بعد أن ضلعوا في اغتيال قائد عسكري مهم بجيش الأسد لم يعجبه تعزيز إيران المبالغ فيه لميليشياتها، والأسد ليس وحده الذي يشعر بالقلق من بحث طهران عن حل سياسي لا يشمله، بل الروس أيضًا.
لماذا قد يقلق الروس من الإيرانيين؟ لأن الإيرانيين ليسوا حلفاء أحد، وليست مصالحهم معتمدة على الأسد كما قد يتصور البعض، فإن كانوا قد تمسكوا به في البداية فإن تلك كانت مرحلة مؤقتة حتى بنوا لأنفسهم رصيدًا على الأرض بميليشياتهم، والتي اضطلعت بالدور الرئيسي في مواجهة الثوار السوريين، وفي ظل هيمنتها بهذا الشكل في جنوب سوريا، مع اقترابها من الغرب ورغبتها في تسوية الملف السوري بشكل سريع نتيجة تكاليفه الباهظة التي يشق عليها الآن دفعها بينما تتهاوى أسعار البترول، بدا مؤخرًا وأنها قادرة على ذلك بالفعل بشكل ينهي مستقبل الأسد السياسي، ويعوق طموحات روسيا المعتمدة على النظام السوري.
التصريحات التي أطلقها نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تثبت معالم الموقف الإيراني الجديد، حيث قال في زيارة للعاصمة البريطانية لندن بالأمس أن إيران تدعم الأسد نظرًا لأهمية دوره في مكافحة الإرهاب، ولكنها لن تدعمه للأبد، وأن مصيره في النهاية سيحدده الشعب السوري بنفسه، والذي تلتزم إيران باحترام قراره أيًا كان، وهي كلمات تشي بتحول ولو بسيط في التمسك الإيراني بالأسد، وتفسر مدى إلحاح فكرة البحث عن حل يضم الأسد الآن قبل أن تتخلى عنه إيران أكثر من ذلك من جانب الروس ونظام الأسد نفسه.
استضافة الأسد إذن قد لا تكون مجرد استعراض دبلوماسي، ولكن إشارة للرغبة في بدء الحوار مع توضيح أهمية وجود الأسد فيه، وهو ما يفسر الاتصالات التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدة قوى إقليمية لتوضيح الزيارة، مثل نظيره التركي رجب طيب أردوغان، والملك سلمان ملك السعودية، علاوة على التنسيق الذي بدأته روسيا مع الولايات المتحدة منذ أيام لتفادي تعرض طائراتهما لبعضها البعض في المجال الجوي السوري، وإعلان الإعلام الروسي أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري سيلتقي نظيره الروسي سيرجي لافروف لبحث الملف السوري، وأن نظيريهما التركي والسعودي سينضمان للاجتماع.
من يغيب عن تلك الصورة الدولية إذن؟ تغيب أوروبا، والتي تتمسك برحيل الأسد كما جاء على لسان المستشارة الألمانية أنغلا مركل منذ ساعات، حيث قالت بأنه لا مكان للأسد في مستقبل سوريا، في تحول واضح عن تصريحاتها منذ أقل من شهر حين صرحت بضرورة وجود الأسد في أي نقاشات للأزمة السورية، وهو تحول قد يفسره التقارب الأخير الذي جرى بينها وبين أردوغان في إسطنبول نتيجة حاجتها للدعم التركي في احتواء أزمة اللاجئين الملحة في بلدها بشكل خاص، والتي لا تتحمل المزيد منهم.
رغبة مركل في البحث عن مخرج تعامدت بالطبع مع رغبة الأتراك في البحث عن رد مناسب لما يقوم به الطيران الروسي من دعم للأسد في معركة حلب، والتي تمثل عاصمة شمال سوريا المهمة للنفوذ التركي التاريخي في الشام، وللمعارضة السورية بشكل عام، والاتفاق على خلق منطقة عازلة في شمال سوريا كان الهدف الرئيسي للأتراك من تلك المحادثات، علاوة على تنازلات أخرى بخصوص عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث تعني تلك المنطقة تأمين المصالح التركية في سوريا، وخلق منطقة آمنة في نفس الوقت لإعادة توطين اللاجئين، وهي مسألة ستؤدي لنشوء مركز ثقل سوري معارض في أغلبه بالشمال وهيمنته على حلب مع الوقت كما يعي الجميع.
بشكل أو آخر إذن يمكن أن نقول أن الدبلوماسية الأوروبية التي أتت بمركل في زيارة من الوزن الثقيل لإسطنبول، والتي تعاني من تنامي النفوذ الروسي في شرق القارة، ولا تريد أن تراه بشكل عام في شرق المتوسط المهم لأمن القارة الأوروبية، تلقت ردًا نوعًا ما باستضافة موسكو للأسد، مع الفارق بالطبع بين أهداف الزيارتين والشخصيات الرئيسية الحاضرة فيهما، ولكن تتابع الزيارتين من حيث التوقيت ليس مجرد مصادفة، خاصة وأن الأتراك والأمريكيين فقط هم من يستطيع عسكريًا موازنة الروس في المتوسط، وبينما ينشغل الأمريكيون ويخففون وجودهم بالمنطقة، فإن مركل ليس أمامها سوى الاتجاه لتركيا.
المسألة من منظور أوروبا لا تتعلق بالضربات الجوية الروسية فقط، بل والتحركات الجدية الجارية التي تقوم بها روسيا لتحاصر أوروبا استراتيجيًا وجغرافيًا، وهو الذي حذر منه القائد العسكري الأمريكي فيليب بريدلاف، والمسؤول عن قوات الناتو في أوروبا، حيث أشار إلى “فقاعات” روسية من الحظر الجوي ومنع الوصول (أنظمة A2/Ad) تقيمها موسكو بالقرب من أوروبا، وكانت الأولى موجودة منذ وقت طويل في ولاية كالينينجراد الروسية الواقعة بين لاتفيا وبولندا، أما الثانية فتم تدشينها مؤخرًا في شبه جزيرة القرم بعد استحواذ الروس عليها، والثالثة منذ أقل من شهر على سواحل المتوسط السورية.
المسألة إذن ملحة لأوروبا وللأتراك، والذين يحاولون استخدام أزمة اللاجئين لفرض حل يحقق مصالحهما المتداخلة، وإن كان الأتراك متوجسين من الدور الإيراني، إلا أن اقتصاره على الجنوب مسألة قد يرون أنها حتمية أولًا، ولا تهمهم ما دامت مصالحهم الشمالية محفوظة ثانيًا، وتشكل إزعاجًا لا غضاضة منه على إسرائيل ثالثًا، مما يعطيهم قدرة مع الأوروبيين على التوصل لحل مع إيران لا يشمل الأسد، وهو مسألة صعبة في ظل غياب الخليج الذي يتوجس بالأساس من إيران، وكذلك الأمريكيين الذين تهمهم مصالح إسرائيل ولا يريدون رؤية ميليشيات إيران على حدودها، والروس أصحاب قاعدة طرطوس.
إجمالًا، وبينما يظن البعض أن الروس والإيرانيين في مركب واحد، وأن استضافة موسكو للأسد هدفت بالأساس لتوجيه رسالة للأمريكيين أو للغرب، فإنها كانت في الحقيقة موجهة لأوروبا وتركيا ومسارهما الدبلوماسي الذي ربما يحاولان تدشينه مع إيران بدون الأسد، وفي نفس الوقت لإيران التي تبتعد رويدًا عن موسكو والأسد وتشكل موقفًا مستقلًا، والتي قد يزعجها مستقبلًا التواجد الروسي العسكري لو قرر الأوروبيون الاعتماد عليها في مسألة الغاز، والذي لربما ترمي بتشكيل قوتها الخاصة إلى حمايته على المدى البعيد.
بقي أن نقول أنه ليس ثمة أبيض وأسود في سوريا، بل مصالح متشابكة ومتحولة، وأن التنسيق بين الروس والأمريكيين قد يحاول الأسد وإسرائيل من الناحيتين استخدامه لتقديم حل يحفظ الجيش السوري بشكل أبعد عن صلاته بإيران، وهو حل سيكون صعبًا بالنظر لحلفاء إيران المتغلغلين في الجنوب، وحلفاء تركيا في الشمال، وهو وضع قد يؤدي ربما إما لانتصار المعسكر الأول بثقله الدولي، خاصة إذا ما نجح الروس في ضرب المعارضة في حلب، وإما سيؤدي لبروز حل تركي إيراني أشبه بالنموذج الألماني في الحرب الباردة، يحفظ الطرفين فيه مصالحه شمالًا وجنوبًا، مع احتمالية إما احتواء إيران للقاعدة الروسية طرطوس، أو نشأة كيان علوي مستقل يستضيفها إن ضغطت روسيا في هذا الاتجاه للحفاظ على دورها بشكل أكبر.