“أعطني القوة لأقول لا، وأعطني العقل لأعرف كيف أقولها، وأعطني الكفاية لأعرف متى أقولها” محمد إقبال.
لا خير في أمة لا تعلم نخبتها ومفكريها ومصلحيها، فاليوم شباب هذه الأمة لا يهتمون إلا بسفاسف الأمور، والحضارة الإسلامية لن تنهض مجددًا إلا كما نهضت في مرحلتها الأولى.
ومن هؤلاء الذين يجب على الأمة أن تدرس حياتهم وتبحث عن آثارهم، وتنقب عن علومهم وأفكارهم وأبحاثهم ومؤلفاتهم، الشاعر والسياسي والمفكر الإسلامي الباكستاني محمد إقبال، وهو بحق أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية فى القرن الماضي، وقد قال عنه السيد أبو الحسن الندوي: “إن إقبال أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة، التي ظلت تشتعل وتنتج في العالم الإسلامي من قرن كامل، وأعمق مفكر أوجده الشرق في عصرنا الحاضر، إن جُلّ ما أعتقده أنَّ إقبـــال شاعرٌ أنطقه اللهُ ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه اللهُ الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء، قبل عصره، وفي غير عصره”.
وقد كانت غالب قصائده وأشعاره تحض على اتحاد المسلمين لصيانة وحراسة الحرم الشريف من سواحل النيل إلى تراب كاشغر (تركستان الشرقية).
حياته
ولد محمد نور محمد إقبال، في التاسع من نوفمبر 1877م الثالث من ذي القعدة 1294هـ بمدينة سيالكرت في البنجاب، وكان أجداده قد هاجروا من كشمير، وتعود أصول إقبال لأسرة برهمية؛ حيث كان أجداده ينتمون إلى جماعة من الياندبت في كشمير، واعتنق الإسلام أحد أجداده في عهد السلطان زين العابدين بادشاه (1421 ـ 1473م) قبل حكم الملك المغولي الشهير جلال الدين محمد أكبر.
حفظ إقبال القرآن الكريم ودرس اللغة الفارسية والعربية إلى جانب لغة المسلمين في شبه القارة الهندية الأردية، درس الفلسفة في كلية لاهور وكان من المتميزين، وقد ظهر عليه نبوغه في الحكمة الإسلامية منذ سن مبكرة، ثم تلقى تعليمه في إنجلترا بجامعة كامبردج حيث حصل على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد والفلسفة، كما نال درجة الدكتوراة من جامعة ميونخ في ألمانيا في الفلسفة عن “تطور الفلسفة الميتافيزيقية في بلاد الفرس”، ثم ما لبث أن عاد إلى إنجلترا لينال ليسانس الحقوق.
وكان رأي إقبال في الفلسفة، “أن الحكمة الفلسفية ليست إلا حجابًا للحقيقة، وأنها لا تزيد صاحبها إلا بعدًا عن صميم الحياة، وأن بحوثها وتدقيقاتها تقضي على روح العمل، هذا هيجل الذي نبالغ في تقديره إن صدفته خالية من اللؤلؤة ونظامه ليس إلا وهمًا من الأوهام، إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها وكيف تخلد شخصيتها، إن بني آدم يطلبون الثبات ويطلبون دستورًا للحياة، ولكن الفلسفة لا تساعدهم في ذلك بل بالعكس من ذلك، إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم واستيقظ الكون”.
علاقته بالقرآن الكريم
كان أكثر كتاب أثر في نفس إقبال هو القرآن الكريم، فلقد كان يتلو في كتاب الله من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم، وقال المقربون منه إنه كان لا يختم المصحف حتى يبله بالدموع.
وقد سأل إقبال عن سر بلاغته في كشف أسرار الدين بأساليب لم يصل إليها أهل الفقه والتوحيد فقال: يرجع الفضل لوالدي، فقد أصبحت لديه عادة أن يسألني كل صباح حين يراني أقرأ القرآن، ماذا تصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن، وظل على ذلك ثلاث سنين يسأل نفس السؤال وأجيب نفس الجواب حتى كان يومًا فقلت له: ولكن لماذا تسألني عن شيء أنت أعلم بجوابه؟ فقال: “إنما أردت أن أقول لك اقرأ القرآن وتعمق به واستغرق في معانيه وليست قراءة معتادة فقط، اقرأ القرآن كأنه أنزل عليك”، فكنت بعدها كلما قرأت تسابقت دموعي مع وقع الآيات في قلبي، وبدأت أتفهم القرآن وأُقبل على معانيه.
جهوده الدعوية
كما ألقى إقبال في لندن عشرات المحاضرات الدعوية عن الإسلام وعظمته مما ساهم مساهمة كبيرة في نقل صورة حقيقية عن الإسلام للأوربيين، كذلك سطرت أنامله عشرات القصائد الإسلامية، بل عمل على تدريس اللغة العربية للغربيين، كما قارن بين الفلاسفة المسلمين كابن سينا وابن رشد وجلال الدين الرومي من جهة وبين أشهر فلاسفة الغرب هيجل ونيتشه، وشوبنهاور.
وقد تُرجمت كتاباته إلى الكثير من اللغات الأجنبية، وقارن فلاسفة الغرب بينه وبين جوته ونيتشه، كما كانت له مساهمات علميَّة جادَّة كانت سببًا رئيسًا في الدفاع عن الإسلام، فكانت فلسفته قائمة على القوَّة والوَحدة، وقبل وفاته بستَّة أشهر زاره العلامة أبو الحسن الندوي، فعبَّر له إقبال عن نظرته للفلسفة قائلاً: “إن علوم الطبيعة تلتقي مع الإسلام على الجدِّ والعمل والبعد عن البحوث الفلسفيَّة التي لا جدوى فيها، وقد ظلَّت هذه الروح متغلغلة في المجتمع الإسلامي قرنين، وبقي متمسِّكًا بالعقيدة والعمل والسيرة والخلق حتى طغت عليه الفلسفة الإغريقية…”.
ثم تحدث إقبال عن الفلسفة الإلهية، وكيف شغلت الشرق واستهلكت قواه، وذكر أن أوروبا إنما نهضت وملكت العالم لمَّا ثارت على هذه الفلسفة أي فلسفة ما بعد الطبيعة، وبدأت تشتغل بعلوم الطبيعة المجدية المنتجة، ولكن قد حدث وثار من المسائل في هذا العصر ما يخاف معه أن ترجع أوروبا القهقرى، وذكر أن العقل العربي كان الأقدر على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، والأجدر على حمل أمانته (راجع كتاب روائع إقبال لـ “أبو الحسن الندوي”).
إنشاء وطن للمسلمين في شبه القارة الهندية
كان إقبال في الوقت نفسه أول من نادى بقيام وطن خاص بالمسلمين في شبه الجزيرة الهندية، وقد انضم لحزب الرابطة الإسلامية، الذي كان يدافع عن حقوق وأوضاع المسلمين بالهند، ورغم إغراءات الإنجليز له والتي وصل بعضها إلى عرض منصب نائب الملك في جنوب أفريقيا، إلا أنه رفض المنصب وبرر ذلك حيث قال لهم: “إن حرم نائب الملك لابد أن تكون سافرة، وتستقبل الضيوف، وهذا لا أقبله لأنه إهانة لديني ومساومة لكرامتي”.
وفي المؤتمر السنوي للرابطة الإسلامية في مدينة “الله أباد” سنة 1350هـ ـ 1930م وقف إقبال وكان زعيم المؤتمر وتكلم عن أفكاره وحلمه لإنشاء وطن للمسلمين في الهند، مما كان له أكبر الأثر في تشجيع المسلمين على إقامة دولة باكستان فيما بعد، فرغم أن فكرته قد طرحها سنة 1350هـ، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ الفعلي إلا سنة 1360هـ – 1940م أي بعد وفاة محمد إقبال بعامين، ذلك لأنه توفي في 21 صفر سنة 1357هـ 1938م.
كفاحه لتحرير العالم الإسلامي
كانت مواقف إقبال السياسية تهز العالم الإسلامي ولهذا قال شيخُ العربيةِ العلامةُ محمود محمد شاكر: “كان أعظم ما أدهشني رفضُ إقبال أن يدخل مسجد باريس، ومقالَتُه: “إن هذا المسجد ثمنٌ رِخيص لتدمير دمشق (دخول الاحتلال الفرنسي لسوريا واحتلاله دمشق)! فلولا أن الرجل – والكلامُ لشاكر – كان يعيش في حقيقةٍ صريحة، وفي ذكرٍ دائِمٍ لا ينقطع لما نزل بنا وطَمّ، لما خطر له هذا الخاطر، وكم من غافلٍ ساهٍ مِنَّا ومن قومنا يعرض له أن يحيا تاريخ نفسه، وتاريخ دينه، بمثل هذه الكلمة؛ ثم لا تراه إلا حيث يكره الله من الذل والضَّعَة والعبودية، والفتنة بمازَيَّن له”.
وكان رده على من أغراه بالمنصب السياسي: “لا، أنا منتخب عن الشعب فيما أصدر من مقالات، هذه المقالات التي ناصرت ليبيا وفلسطين والأفغان وسوريا ومصر وكل بلد إسلامي كان يرزح تحت الاحتلال”.
ومن أشهر أقواله
“الغاية القصوى للنشاط الإنساني هي حياة مجيدة فتية مبتهجة، وكل فن إنساني يجب أن يخضع لهذه الغاية”.
“أعلى فن هو ذلك الذي يوقظ قوة الإرادة النائمة فينا، ويستحثنا على مواجهة الحياة في رجولة”.
“بحث ليس منتهى غاية الذات أن ترى شيئًا، بل أن تصير شيئًا”.
ومن أقواله في افتتاح المؤتمر الإسلامي عام 1930م: “على كل مسلم عندما يولد ويسمع كلمة لا إله إلا الله أن يقطع على نفسه العهد على إنقاذ الأقصى”.
مقتطفات من أشعاره
ترك شاعرنا من الدواوين: الأسرار والرموز، رسالة الشرق، رسالة الخلود، هوية الحجاز، صلصلة الجرس، جناح جبريل، وعصا موسى.
قصيدة اسمها “فاطمة الزهراء” يعني بنت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيها:
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم *** من ؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوهــــا فــهــو أشرف مـــــرسل *** جبريل بالتوحــــيد قــــــد رباهــــــا
وعلي زوج لا تســل عنه ســوى *** سـيفـــــًا غـــــدا بيمينـــــــــــه تيـّاهــــا
ويقول وهو يتفجع على المسلمين وقد زار قرطبة فوقف أمام الجامع وما وجد المسلمين، ووجد المسجد قد حول جزء منه إلى حانات من الخمر، فبكى وجلس عند الباب وأنشد قصيدته الشهيرة في مسجد قرطبة فقال:
أرى التفــكير أدركـه خمــول *** ولم تبق الـــعزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور *** ولا سحـــر يطل مـن المقـــال
وعند النـــــاس فلســفة وفكر *** ولكن أين تلقين الغـــــــزالي
وجلــجلة الأذان بكــل حـــــي *** ولكن أين صوت من بــــــلال
منائركم علـــت في كل ســاح *** ومسجدكم من العــباد خـــــال
وقد سمحت له الحكومة الإسبانية بالصلاة في مسجد قرطبة الكبير رغم أن الحكومة حتى لحظة كتابة هذه السطور تمنع صلاة المسلمين في المسجد الذي حول جزء منه إلى كنيسة.
وقد زار مكة وبكى أمام الكعبة وأنشد قصيدته “تاجك مكة”، وقال عن الصحابة:
“وأصبح عابدو الأصنام قدما – حماة البيت والركن اليماني”.
وذهب إلى المدينة وسلم على الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبكى طويلاً وأنشد:
“إن كان لي نغم الهنود ودنهم – لكن ذاك الدن من عدنان”.
رؤيته لنهضة المسلمين
رأى إقبال أن “الحضارة الغربية غير قادرة على إسعاد البلاد الإسلامية وإعادة الحياة إليها، كما يعتقد أن المسلم حي خالد ويعيش لغاية خالدة وأن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار وليساير الركب البشري حيث اتجه وسار؛ بل خلق ليوجِّه العالمَ والمجتمع والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملى عليها إرادته؛ لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين”، ويضيف “يرى إقبال أن المسلم هو مصدر الانقلاب الصالح ومطلع فجر السعادة في العالم، وأنه لم يزل ولايزال رائد الانقلاب، ويرى أن المسلم حقيقة عالمية لا تنحصر بين حدود الجنسية والوطنية الضيقة؛ بل العالم كله وطن للمسلم”.
وقد درس المذاهب الفكرية المعاصرة كالاشتراكية والشيوعية والنازية والفاشية التي سيطرت حينها على عقول الملايين حول العالم، حيث نقدها نقدًا علميًا رصينًا في مؤلفاته ليحصر الحل الأمثل في هداية الإسلام، وقد قال أحد المستشرقين: “إن تأثير إقبال بقذائفه الصائبة يفوق تأثير جيش مدجج بالسلاح، لأنه مع عاطفته الحارة كان مسلحًا بالمنطق الصارم”.
كان إقبال يتمنى أن تترجم أشعاره إلى اللغة العربية حتى يفهم العالم الإسلامي أسرار قلبه، ولقد عاش إقبال سنوات عمره يبحث في أصول الإسلام متفهمًا فلسفة الإسلام، وقد قدم خدمات جليلة للإسلام والمسلمين، وقد سطر التاريخ هذه الخدمات بأحرف من نور، يقول عنه المستشرق الإنجليزي نيكلسون: “لقد جاء إقبالُ كرسول إنْ لم يكن لعصره فلسائر العصور”، يقول العلامة الندوي “إني أحببتُه، وشُغلت به كشاعر “الطموح، والحُبِّ، والإيمان”، وكشاعر له عقيدة، ودعوة، ورسالةٌ، وكأعظم ثائر على هذه الحضارة الغربية المادية، وأعظم ناقد لها، وحاقدٍ عليها، وكداعية إلى المجد الإسلامي، وسيادة المسلم، ومن أكبر المحاربين للوطنية والقومية الضيقتين، وأعظم الدعاة إلى النزعة الإنسانية، والجامعة الإسلامية”.
اجتمع المرض على إقبال في السنوات الأخيرة من عمره، فقد ضعف بصره لدرجة أنه لم يستطع التعرف على أصدقائه بسهولة، وكان يعاني من آلام وأزمات شديدة في الحلق؛ مما أدى إلى التهاب حلقه، وأدى بالتالي إلى خفوت صوته، مما اضطره إلى اعتزال مهنة المحاماة، وقد توفي الشاعر الباكستاني الأشهر يوم 21 أبريل 1938 قبل قيام باكستان نفسها.