يمثل اليوم الذكرى الرابعة بعد المائة على استخدام تكنولوجيا الطيران في الحرب عام 1911، حدثت هذه الواقعة أثناء الحرب الإيطالية التركية عندما قام الطيار الإيطالي كارلو بيازا بالإقلاع بطائرته من ليبيا في أول مهمة استطلاعية في تاريخ لكشف خطوط القوات التركية والعربية، كما أن ذات الحرب شهدت أول قصف جوي في التاريخ بعد ذلك التاريخ بأسبوع؛ إذ قامت المناطيد الإيطالية بإلقاء القنابل على قوات الخيالة العربية.
ربما يمكن اعتبار هذا التاريخ باللحظة الفاصلة في تاريخ الحرب كله، لحظة تشابه في أهميتها أول استخدام للبارود في الحروب أو اختراع التكنولوجيا الحربية النووية، ومن الواجب أيضاً أن أي استخدام للسلاح النووي لم يكن ليصبح ممكناً من دون القدرة على إيصاله إلى الهدف عبر الجو، إذ لا يوجد أي استخدام حقيقي للسلاح النووي لا يعتمد على إيصال السلاح عبر الجو باستخدام القاذفات أو الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز مؤخراً.
ولا يمكن تخيل الحروب الحديثة اليوم من دون سلاح الجو الذي تطور ليشمل عشرات الأنواع من الأسلحة التي يخدم كل منها هدفاً مختلفاً، ما بين القصف الاستراتيجي والتجسس والدعم التكتيكي للوحدات على الأرض.
نحاول أن نلقي نظرة سريعة على مجالات استخدام السلاح الجوي وأهم الأسلحة المستخدمة في كل منها حالياً.
-المراقبة والاستطلاع: الاستخدام الأقدم
كما ذكرنا أعلاه، كان أول استخدام للطيران في الحرب في التاريخ هو طلعة استطلاعية، وقد فرضت طبيعة الحرب الحديثة التي تعتمد على الاستخبارات والمعارك الطويلة حاجة مزمنة لتوافر أكبر قدر ممكن من المعلومات عن كل من العدو والأرض التي يحدث عليها القتال.
تطورت أشكال الاستطلاع الجوي بالتدريج من طائرات بدائية يقوم الطيارين فيها بمحاولة رسم تقديرات سريعة للموقف باستخدام الورق والأقلام، لتتجه نحو طائرات نفاثة فائقة السرعة وواسعة المدى تحمل على أجنحتها كاميرات شديدة الدقة أثناء فترة الحرب الباردة، بالإضافة طبعاً إلى أساطيل الأقمار الصناعية ذات نفس الهدف التي تم إطلاقها تباعاً.
حالياً قد مضى عهد الطائرات فائقة السرعة لتكلفتها العالية وأصبحت المسؤولية تقع بشكل رئيسي على عاتق الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار لما لها من تفوق من ناحية الكلفة والخسائر البشرية المحتملة، وتشتهر كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل خصيصاً باستخدام هذه الاستراتيجية.
القصف وتوصيل القنابل: الاستخدام الأكثر كلفة
كان ثاني استخدام للطيران في الحرب للقصف، وكان الاستخدام شديد البدائية إذ قام الضباط الإيطاليين برمي القنابل اليدوية من كابينة منطاد، إلا أن هذا الاستخدام تحديداً كانت سرعة تطوره مرعبة، فبنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وصلت خسائر ألمانيا من المدنيين جراء القصف الجوي فقط إلى نصف مليون شخص، وكان عدد قتلى اليابان التي قصفت بالقنابل النووية جواً مشابهاً، هذا يعني أن التطور في القصف الجوي وصل من القنابل اليدوية من منطاد إلى القاذفات الاستراتيجية الحاملة لعشرات الأطنان من القنابل (النووية أحياناً) في غضون 28 عاماً فقط.
ربما يمكن الحديث هنا عن أشهر قاذفتي قنابل في التاريخ، الأولى هي بي-29، القاذفة الأبعد مجالاً والأضخم والأكثر تقدماً في الحرب العالمية الثانية، والتي قامت بإسقاط القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي، ويذكر أنها ظلت في الخدمة العسكرية لمدة عشر سنوات بعد الحرب.
ومن ثم يأتي الذكر للقاذفة التي استبدلتها والتي تظل إلى اليوم القاذفة الأكثر خطورة في السماء لمداها شديد البعد وطيرانها على ارتفاعات ضخمة جداً، بالإضافة إلى حمولتها التي تعتبر ثاني أكبر حمولة لطائرة في التاريخ، حيث تصل حمولتها إلى 32 طن، ولا يتعداها سوى القاذفة السوفيتية توبوليف 160 والقادرة على حمل 40 طن من القنابل، وحتى اليوم تبقى كلاً من روسيا والولايات المتحدة هي القوى الوحيدة التي تملك قدرة جوية مماثلة، وهي القدرة على إحداث ضرر إستراتيجي في عمق العدو بشكل كافي لإنهاء الحرب لا المعركة.
المقاتلات: فرسان السماء
أتى تطوير المقاتلات الجوية نتيجة لتنامي اعتماد الجيوش على التجسس الجوي أثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت الفكرة ببساطة في تركيب مدافع للطائرات صغيرة الحجم في تلك الفترة لصد طائرات التجسس، كانت طائرات شديدة الخفة والبساطة يتم بناءها من الخشب وتغطيتها بالنسيج ولا تتعدى سرعتها 150 كيلومتر في الساعة، إلا أن فترة الحرب العالمية الأولى تبقى هي الأكثر جذباً للانتباه فيما يخص مهارات الطيارين وأساطيرهم، وذلك نتيجة لأن أغلب هؤلاء الطيارين كانوا أصلاً ضباطاً في فرق الفروسية في الجيوش الألمانية والفرنسية، كما أن صعوبة ظروف الطيران الشديدة وبدائية الطائرات كانت تتطلب قدراً فائقا من المهارة.
في تلك الفترة بدأت تسمية كل طيار يسقط أكثر من خمس طائرات بالرمح، وأشهر رماح الحرب العالمية الأولى أو “رمح الرماح” كما يطلق عليه كان الطيار الألماني “مانفريد فون ريختهوفن”، والمعروف أيضاً بالبارون الأحمر للون طائرته الحمراء المميز، وقد نجح وحدة في إسقاط أكثر من 80 طائرة فرنسية وبريطانية في الحرب.
واستمرت المقاتلات في التطور لتأخذ دوراً أكثر وأكثر أهمية في الحرب الحديثة، إذ أصبحت متعددة المهام تستطيع القصف تكتيكياً لدعم القوات على الأرض، والقتال جوياً لحماية المواقع والقوات من هجمات العدو الجوية، وتميزت القوات الجوية الإسرائيلية على طول تاريخها بالاعتماد على المقاتلات تحديداً أكثر من أي نوع آخر من السلاح الجوي، والغريب في الأمر أن هذه المقاتلات قليلاً ما استخدمت في صد مقاتلات عدوة، وإنما يغلب على تاريخ استخدامها مهام القصف للأهداف الأرضية، والمناطق المدنية تحديداً كالحال في حروب غزة المتعددة وحربي لبنان.
الطائرات بدون طيار: الموت من السماء
أحدث تطور في تاريخ الطيران الحربي وربما أكثرها خطورة، يتحدث العالم كله يومياً عن الاستهداف المستمر من قبل الولايات المتحدة لأعدائها في كل أركان العالم من اليمن لأفغانستان وغيرها عبر استخدام الطائرات بدون طيار؛ أو ذكر النحل كما يسميها الأميركيون لصوت زنينها المميز.
تعتبر كل من الولايات المتحدة وإسرائيل كرواد تطوير هذا النوع من الطائرات، وقد بدأت كل منهما على حدة في ذلك نتيجة لحرب فيتنام وحرب السادس من أكتوبر على الترتيب، وكان الهدف الرئيسي منها هو المراقبة والتجسس بدون تعريض الطيارين للخطر، وذلك نظراً لمحدودية عدد الطيارين وتكاليف تدريبهم الضخمة، وقد نجحت إسرائيل قبل الولايات المتحدة حتى في تطوير أول طائرة بدون طيار قادرة على نقل الصور بشكل مباشر دون الحاجة إلى انتظار رجوعها، وكان استخدامها في حرب لبنان عام 1983 هو السبب الرئيسي في تدمير قدرة الجيش السوري المضادة للطيران بشكل كامل.
وبدأ تسليح هذه الطائرات لأول مرة في فترة التسعينات مع موديل بريديتور أو المفترس الأمريكي الشهير، وقد سمحت هذه الطائرة صغيرة الحجم للقوات الأمريكية حول العالم بإطلاقها من أي مكان كقاعدة جوية أو حتى سطح مدمرة، والتحكم بها عبر القمر الصناعي من أي مكان أيضاً، ويذكر أن عدد من الاغتيالات البارزة التي قامت بها الولايات المتحدة كانت الطائرات التي تنفذها يتم التحكم بها من قلب مبنى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في لانغلي.