لم نسمع كثيرًا عن الربيع العربي في المغرب عام 2011، حيث كان الضوء في المغرب العربي مسلطًا على الثورات القوية التي هزت تونس وليبيا، غير أنه بينما آلت ليبيا لصراع مسلح لم ينتهي حتى الآن بين الثورة وأعدائها، وفشلت قوى الثورة في تونس في الحفاظ على السلطة رُغم نجاحها في وضع أسس نظام ديمقراطي لتخلق خلافًا حيال نجاح الربيع أو فشله فيها، فإن المغرب التي وصلها الربيع بشكل هادئ بتظاهرات مطالبة بالإصلاح السياسي يبدو وأنها صاحبة النموذج الأكثر نجاحًا الآن، وليس في المغرب العربي، ولكن من بين كافة البلدان العربية، وهو أمر لافت بالطبع بالنظر لكونها دولة ذات نظام ملكي.
على عكس إسلاميي تونس ومصر، اتسمت خطوات حزب العدالة والتنمية المغربي إبان الربيع العربي بالهدوء والذكاء الشديدَين في التعامل مع الملك محمد السادس، والذي ساهمت رغبته هو شخصيًا في استيعاب التظاهرات وإحداث بعض الإصلاحات في الوصول بالمغرب للنموذج الذي تسير وفقه الآن، فبينما تمتعت المغرب في السابق بنظام سياسي منفتح شكليًا قبل الربيع، قام الملك في 2011 بتعديلات دستورية خلقت وزنًا وقوة حقيقية لرئيس الوزراء، والذي أصبح من اختيار الشارع بضرورة اختياره من حزب الأغلبية في البرلمان.
كما هو متوقع، وكما حدث في مصر وتونس، فاز الإسلاميون مع أول انتخابات حرة وشفافة أجريت في نوفمبر 2011، ليصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي للسلطة بقيادة عبد الإله بنكيران، والذي أصبح منذئذ رئيس الوزراء المغربي، غير أن لعبة السياسة بينه وبين السلطة القائمة الممثلة في الملك أبقته وحزبه في السلطة، على العكس من حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر، ليبدأ انطلاق التجربة المغربية منذ أربع سنوات، والتي تشهد في إطارها المغرب نظامًا سياسيًا أكثر استقرارًا من كل الدول التي آلت للتفكك، كسوريا وليبيا واليمن والعراق، وأكثر انفتاحًا في نفس الوقت من الدول التي عادت للخلف أو لم يصلها الربيع أصلًا، مثل مصر والسودان والسعودية والجزائر والأردن.
وجود منظومة سياسية مفتوحة نسبيًا وتتمتع بشرعية في تناغم بين القوى القديمة الممثلة في الملك وحاشيته، والقوى الجديدة الصاعدة المدعومة شعبيًا والممثلة في الإسلاميين، لم تكن ثمارها لتكون سياسية فقط، تمامًا كما حدث مع حزب العدالة والتنمية التركي في 2002، ولكن كان حتميًا أن تُحدث تحولًا اقتصاديًا، وهو ما بدأت بوادره في المغرب، التي وضِعت مدينتها الأكبر الدار البيضاء على قائمة أفضل عشر مدن مالية في العالم منذ أيام، كمدينة عربية غير خليجية وحيدة في القائمة.
الدار البيضاء بين ثلاث قارات
زحام كثير مؤخرًا ربما يشهده مطار الدار البيضاء، فهو لا يعج بالسياح التقليديين فقط الذين يأتون لزيارة المدينة التاريخية، ولكن أصبح إقبال المستثمرين عليه في تزايد، علاوة على مسؤولين ورجال دين كُثُر من دول أفريقية عديدة بدأ نفوذ وطموح المغرب في لعب دور أفريقي وإسلامي هام في اجتذابهم.
على الصعيد الاقتصادي يبدو وأن المغرب ستسفيد صناعيًا بقوة من الأزمة الأوروبية، إذ تحاول عدة شركات أوروبية كبرى تقليل اعتمادها على مصانعها الأم في القارة العجوز، والبحث عن أكثر بلد مناسب من حيث وجود أعداد كبيرة من الشباب المتعلم المناسب للعمل، وبيئة استثمارية مفتوحة، ونظام سياسي مستقر، وهو ما تمثله المغرب أكثر من سواها لا سيما بقُربها من أوروبا، لتدفع بعض شركات بالفعل إلى الاستثمار فيها بشكل قوي، كما فعلت شركة بيجو الفرنسية العريقة للسيارات.
أعلنت شركة بيجو وستروين منذ أيام بناء أول مصنع تجميع سيارات باستثمار مباشر لها في القارة الأفريقية بقيمة 577 مليون يورو، والذي بدأ بناؤه بالفعل قرب مدينة القنيطرة المغربية، وسيبدأ إنتاج أول سيارات عام 2019 بمعدل 90،000 سيارة سنويًا، طبقًا للعقد الموقع بين وزير الصناعة مولاي حافظ العلمي ورئيس الشركة كارلوس تافارِس.
الطاقة البديلة أيضًا هي واحدة من المجالات التي تهتم بها المغرب، أولًا نظرًا لرغبتها في التقليل على اعتمادها على النفط والغاز، وثانيًا لأنها بقُربها من أوروبا يمكن أن تصدر أي فائض في المستقبل بمشروعات بسيطة تصل شبكات الكهرباء فيها بإسبانيا ومن ثم فرنسا، وهو ما يفسر حصول المغرب على مشروعين من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم، والتي ستقوم بتنفيذهما شركتان سعودية وإسبانية في جنوب المغرب، وليصبح لدى المغرب 2000 ميجاوات من الطاقة الشمسية بحلول عام 2020.
التعاون مع أوروبا والاستفادة من رغبتها في التحرك جنوبًا لن تكون نهاية القصة، ولكنها ما إن تحدث النقلة المرجوة في اقتصاد المغرب حتى ستبدأ في اجتذاب قارتين، القارة الأفريقية أولًا، والتي ستبدأ في النظر للمغرب باعتبارها القبلة الاقتصادية للقارة، لا سيما دول غرب أفريقيا والتي تمتلك روابط تاريخية ودينية مع المغرب العربي، وأمريكا اللاتينية ثانيًا، والتي بدأت تهتم بالفعل بالساحل الغربي للقارة الأفريقية بشكل عام، وبالمغرب وجنوب أفريقيا بشكل خاص باعتبارهما مفتاحًا للتعاون مع القارة.
التوسع في أفريقيا
ليس غريبًا إذن الاهتمام الكبير بالمغرب مؤخرًا بين دول غرب القارة، مثل مالي وساحل العاج، والتي تبحث عن ريادة المغرب في مجالات الاتصالات والبنوك والبناء، كما تشي بذلك زيارة الملك محمد سادس لساحل العاج هذا العام والتي تخللها الاتفاق على تدشين فرعين لاثنين من أكبر بنوك المغرب، والتي يمتلك أكبرها، التجاري وفا، 312 فرعًا في غرب أفريقيا فقط، ويساعد بالطبع في تمويل المشروعات المغربية.
في مجال الاتصالات لا يقل التوسع المغربي سرعة في نفس المنطقة من القارة، حيث قامت شركة ماروك تيليكوم بشراء شركة الإمارات للاتصالات في غرب أفريقيا مقابل 650 مليون دولار، وهي تنوي التوسع في المنطقة في السنوات الخمس المقبلة لمضاعفة ثقلها وأرباحها هناك، وكل تلك الروابط بالتبعية استتبعت اهتمامًا بالقارة الأفريقية دفع شركة رويال أير ماروك، وهي شركة الطيران المغربية، لزيادة عدد العواصم الأفريقية التي تطير إليها من الدار البيضاء لتصل لأكثر من 20 بلدًا في قلب أفريقيا.
النفوذ الاقتصادي يليه كما نعرف التأثير السياسي والثقافي، والذي لطالما هيمنت فيه الجزائر بينما اقتصرت المغرب على علاقاتها بأوروبا، وهو وضع يتيغير الآن لا سيما مع انتشار العنف في بلدان أفريقية إسلامية عدة، ورغبة حكوماتها في الاستفادة من التجربة المغربية أولًا، وتعزيز التيارات المعتدلة بنفوذ الملكية المغربية المتشابك مع الحركات الصوفية بالقارة الأفريقية ثانيًا، والتي قد تساعد في احتواء شرائح واسعة من الشباب المتطرف وإن لم تكن كافية بالطبع لمعالجة أسباب اتجاههم للتطرف من الأصل.
تأسيس مركز ضخم لتدريب الأئمة من غير المغاربة هو خطوة مفهومة إذن على طريق التأثير الثقافي واحتواء التطرف في غرب القارة، وهو مركز في العاصمة المغربية الرباط تهدف به المغرب لتدريب أئمة مسلمين من كافة أنحاء العالم، بما في ذلك الأئمة في دول أوروبية وآسيوية كبيرة كالصين وبريطانيا وفرنسا، والتي قد تكون هي الأخرى مهتمة بالتعاون مع المغرب في هذا المجال لتخفيف حدة الخطاب المتطرف الموجود لدى بعض من مهاجريها المسلمين.
المغرب بالتحديد تمتلك سجلًا جيدًا في التعامل مع التطرف بشكل هادئ بدلًا من العقلية الأمنية المنتشرة في بلاد عربية عدة، فبرنامج مكافحة التطرف فيها تشرف عليه وزارة الشؤون الدينية وأعضاء من المجالس الدينية المحلية ممن زاروا حوالي خمسة آلاف مسجون بتُهم متعلقة بالإرهاب، وهو برنامج يتيح لهؤلاء العودة لحياة طبيعية بعد الخروج بتقديم تدريبات في مجال عملهم ليتمكنوا من إيجاد الوظائف أو استكمال دراساتهم الجامعية، وهو منظور مختلف بشكل عام في التعامل مع التطرف والإرهاب عن ذلك الذي تبنته الجزائر في وقت سابق، وربما كان سببًا في الأزمة الجارية الآن بمالي.
***
رويدًا يزداد الحديث عن المغرب وتجربته، سياسيًا واقتصاديًا، بينما يزداد نفوذ الدار البيضاء في قارة لم تعد تمارس فيها مصر دورها التقليدي، وتراجعت فيها أوروبا نظرًا لانشغالها بأزماتها وتضاؤل قوتها عالميًا، في حين تبتعد أمريكا نسبيًا لتتجه نحو المحيط الهادئ وشرق آسيا، تاركين الساحة للتوسع المالي الصيني والهندي واللاتيني، وهي تحولات قد تعيد بالطبع رسم خارطة القارة، لا سيما في غربها حيث تزداد الاضطرابات، وهي خريطة سيكون للمغرب دور كبير في رسمها بالنظر لتصاعد دورها التدريجي فيها.
خلال العقد الأول من القرن الجديد كان حديث الجميع في المنطقة عن النموذج التركي ونجاحاته الاقتصادية والسياسية داخل تركيا، ثم توسع دوره تلقائيًا في محيطه الإقليمي بالمشرق العربي، بيد أنه بينما تعقدت المسائل في المشرق بعد الربيع العربي، وأصبحت الساحة السياسية في أنقرة أكثر اضطرابًا من ذي قبل، قد تتجه الأنظر الآن بعيدًا نحو سواحل المغرب الهادئة، حيث يقوم نموذج جديد مستوحى في الأصل من التجربة التركية وإن اختلفت ظروفه، وهو نموذج سنظل نتكلم عنه لسنوات قادمة على ما يبدو.