مجددًا تعود الضفة الغربية المحتلة إلى الشاشة بعد أن غابت عنها طويلًا بفعل حالة الضبط الأمني الذي تعيشه مدنها منذ أحداث الانقسام بين حركتي حماس وفتح عام 2007، وعلى الرغم من أن موجات من الغضب اشتعلت فيها في الآونة الأخيرة على إثر التطورات الخطيرة والتاريخية التي تحدق بالمسجد الأقصى المبارك، إلا أن هذه الجولة تعتبر أشد ضراوةً مما سبقها ويحيط بها العديد من المتغيرات التي تنبأ ببقاء فتيلها مشتعلًا بل وقد تتطور أكثر فأكثر، خاصةً بعد خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخير في الأمم المتحدة والذي أكد فيه أن السلطة في حلٍ من الاتفاقيات مع إسرائيل ما استمر إخلال الأخيرة بها.
وإن لم تكن السلطة قد سارت في مسلكٍ إيجابي يثبت فعليًا ما صرح به عباس إلا أنها في هذه المرة لم تقدم ما يعتبره الكثيرون “خضوعًا” تجاه إسرائيل، فلم تستنكر السلطة أيًا من العمليات التي وقعت مؤخرًا ضد المستوطنين والتزمت الصمت وتركت الحبل مرخيًا أمام الثورة الشعبية، التي لطالما كان قمع الأجهزة الأمنية في الضفة سببًا في إخماد نارها والقضاء عليها في مهدها.
وقد عاشت السلطة أعوامًا تحت القبضة الأمنية المزدوجة للاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية، تسببت في الزج بالمئات من أنصار حماس والفصائل الأخرى في سجونها وتفكيك عشرات الخلايا وإحباط الكثير من المخططات للقيام بعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، حتى وقع سوء الظن بالبعض تجاه الضفة بأنها نسيت طريق المقاومة المسلحة والشعبية، لكن سكينًا حملها شابٌ يبلغ من العمر 19 عامًا يقتل بها حاخامًا ويستولي على مسدس ويقتل به آخر ويصيب آخرين، ومن قبله قيام مجموعةٍ مسلحة بعمليةٍ محكمة ضد ضابط مخابرات إسرائيلي وزوجته ومستوطن آخر، ناهيك عن العشرات من عمليات الطعن والدهس التي جعلت المستوطنين يخشون السير وحدهم في شوارع الضفة، أعادت التذكير بأن الضفة الغربية وإن غابت أعوامًا عن واجهة العمل المقاوم ضد الاحتلال فإن هذا لا يعدو كونه سباتٌ مؤقت، عادت من بعده لتضرب بعمقٍ مؤثر لتكسب المعادلة توازنًا جديدًا في ظل تقلبات الأمور وتطورها.
ولا شك بأن الوضع الذي تشهده الضفة الغربية والقدس إن استمر على ما هو عليه فإننا أمام انتفاضةٍ حقيقة جديدة، وقد اكتسبت من الأسباب ما يجعلها أكثر ضراوةً من سابقاتها، فقد تجاوز القتل بحق الفلسطينيين والتضييق على معيشتهم مبلغًا لا يحتمل، كما أن الأقصى وهو ذروة سنام انتفاضة عام 2000، يتعرض اليوم لأبشع وأخطر محاولات التهويد الممنهج، والتعدي المستمر على باحاته وتدمير آثاره التي تعود إلى آلاف السنين، بل إنه يقف اليوم على أعتاب التقسيم الزماني وهذا ما يعني أن مخطط تدميره وإحلال المخططات الإسرائيلية محله بات أقرب بكثير مما كان متوقعًا، وهذا ما يستحق انتفاضةً عارمة تقلب الكفة لصالح المواجهة المباشرة مع الاحتلال خاصةً في الضفة والقدس.
وكما أن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى انتفاضةٍ تعيد مفاهيم الصراع مع إسرائيل إلى مضمار المقاومة والمواجهة بعدما أثبتت كل محاولات التسوية فشلها الكامل، فإن الساحة العربية اليوم والتي انشغلت بنفسها كثيرًا بحاجة إلى موجة تصوب البوصلة نحو القدس وتعيد إليها اتجاهها الصحيح، فالبوصلة نحو القدس تمر بالقدس فقط ولا تمر بأي عاصمة أو مدينة عربية أخرى، والسلاح الذي يفتك بالآلاف من المدنيين في المحيط العربي يجب أن يصب فوق من يحاول أن يأكل دولنا واحدةٍ تلو الأخرى بعدما أكل عروبتنا حينما اغتصب قدسها، وإن فوهات البنادق يجب أن تصوب نحو الاحتلال الحقيقي والذي عاث فسادًا في محيطنا العربي من أجل أن ينعم هو وحده بالأمن والأمان.
فالشعب الفلسطيني وفصائله وقواه السياسية والعسكرية مطالبون اليوم بالنفخ في نار هذه الانتفاضة لتقوى شعلتها والتوحد من أجل هذا الهدف وتنحية الخلافات السياسية جانبًا، كما أن الشعوب العربية وأنظمتها مطالبة اليوم بالوقوف صفًا واحدًا خلف هذا الخيار وترك الخلافات والنزاعات والحروب الأهلية التي ما جلبت سوى الهلاك والدمار وجعلت بلادنا تحترق فيما تنعم دولة الاحتلال بالأمن الكامل وسط هذا المستنقع الملتهب.