لم يشهد الشباب الثائر في ميادين وشوارع الضفة وغزة والداخل الفلسطيني والقدس المحتلة، الانتفاضة الأولى، وقسم كبير من هذا الشباب كان رضيعًا في الانتفاضة الثانية! ومنهم من ولد بعدها، ولم يعش – هذا الشباب – أجواء المقاومة الحقيقية، ولم يستنشق الغاز السام المسيل للدموع! لم يغتسل هذا الشباب بالمياه العادمة، ولم يسمع نغمات القنابل الصوتية، وحتى أنه لم يجرب معنى الإصابة برصاصة أطلقت من بندقية (إم 16) يحملها مراهق لم يتجاوز العشرين، ولا حتى بمعدنية مغلفة بالمطاط تصيب جسده وتسقطه قتيلًا دون أن تخترق أحشائه.
كيف استطاعت الجماهير الفلسطينية في ربوع الأرض المحتلة أن تنجب جيلًا يقارع الاحتلال ويؤرق أجهزته الأمنية وينشر الرعب في المجتمع الإسرائيلي؟! كيف نجحت فلسطين أن تورّث لأحرارها نبض الثورة والانتفاضة رغم كل المحاولات الإسرائيلية والعربية والفلسطينية لوأد هذا النبض؟!
معادلة صعبة، لا تفهمها ولا تستوعبها كل القوانين الأرضية، معادلة غريبة أقرب للخيال من الواقع، معادلةٌ الثوابت فيها القدس والمسجد الأقصى المبارك، وأبطالها شبان في مقتبل العمر فهموا وأدركوا أنه لا عيش لهم دون “الثوابت”، والمستفز دائمًا هو محتل الأرض ومصادر حقوق وحريات أهلها!
شعب نساؤه وأطفاله وشيوخه وشبانه اضطهدوا، وقتلوا، وهجّروا، وعانوا من أسوأ مظاهر العنصرية، تآمرت عليهم قيادة شعبهم قبل قيادة عدوهم، وما زال نبض المقاومة، نبض الانتفاضة حيًا فيهم يعيش!
نجح الشعب الفلسطيني في خلق معادلة جديدة، تؤكد أن المسجد الأقصى المبارك صندوق ذهبي يولّد دائمًا من يضحي بالغالي والنفيس من أجله، صندوق ذهبي وبوصلة شعب إذا حاول أحد أن يمسه بسوء ثارت عليه الأيدي قبل القلوب، كما أثبتت الأيام أن لكل جيل انتفاضته، وبانتفاضة بعد انتفاضة يزداد الشعب إصرارًا ويقينًا بضرورة تحرره من كل القيود التي تفرض عليه.
لم ينجح الاحتلال في السيطرة، رغم القبضة الأمنية الواسعة التي تفرضها حكومة نتنياهو، ويبدو أن القيادة الإسرائيلية لم تدرك بعد ولم تفهم العقلية الفلسطينية الثائرة التي تردد دائمًا: “البادئ أظلم”..
الانتفاضة “صنيعة صهيونية” بلا شك، صنعتها الانتهاكات الإسرائيلية والتدنيس اليومي للقدس والمسجد الأقصى المبارك وكل المقدسات الإسلامية والمسيحية، وصنعها الحصار العربي – الإسرائيلي المفروض منذ سنوات طويلة على قطاع غزة، وتصنعها سياسات الأبرتهايد الإسرائيلية، وقرارات الهدم بحق آلاف البيوت، وحرق مصادر الرزق ومحاولات تهويد الأرض والإنسان.
كلها إرهاصات وتراكمات ظلّ الشعب الفلسطيني المقهور يجمّع بها حتى سنحت له الفرصة المناسبة ليفجّر غضبه في انتفاضة ثالثة، ارتقى عشرات الشهداء وجرح المئات، وما زالت الانتفاضة تشتعل رغم كل محاولات إخمادها.
ويثبت الشباب الفلسطيني الثائر في الميادين يومًا بعد يوم أن حرية القدس والمسجد الأقصى المبارك أغلى من الدماء والأرواح، وأن الانتفاضة ستظل قائمة حتى زوال الاحتلال عن القدس والأقصى، وإن هدأت وتيرة المواجهات أو زادت.
الانتفاضة إذًا، خطوة ثابتة مستمرة نحو تحرير القدس والأقصى وأرض فلسطين المباركة، فالشعب المتوكل على الله والمتيقن بنصره سبحانه وتعالى، الشعب الذي يقاوم النار بالحجارة، والسلاح بالصدور العارية لن يهزم أبدًا.