تمر جماعة الإخوان بمنعطف تاريخي ومحنة عظيمة في تاريخها منذ التأسيس، محنة أشد من محنة اغتيال المؤسس ومحنة 54 و65، محنة مختلفة تمامًا وإن تشابهت بعض الفصول وحتى الأسماء، محنة قد تُنهي تاريخ الجماعة الفكري والتنظيمي من وجهة نظر البعض، ومن وجه نظر آخرين يرونها محنة ككل المحن التي مرت بها الجماعة وخرجت منها أكثر عافيةً وأعتى شبابًا.
الواقع يقول إنه لا يوجد فكرة أو تنظيم أو حتى دولة دخلت محنة وخرجت أقوى إلا إذا غيرت من أفكارها وإستراتيجيتها وطريقة إدارتها وأحيانًا قادتها، ألمانيا واليابان مثالان على ذلك خرجوا من المحنة وأصبحوا أقوى ولكن بعد تغيير في الأفكار والإستراتيجيات، وعلى الإخوان كذلك إذا أرادوا أن يخرجوا من هذه المحنة أقوى فعليهم أن يقوموا بتغيير كبير وعظيم يحتاج لموضوع آخر ليس هنا مقامه.
ولكن لي ملاحظة، الإخوان لم يخرجوا أقوى بعد فترة المحن الناصرية بالعكس خرجوا أضعف من ذي قبل، بل واستمر الضعف من يومها حتى الآن، أي مقارنة علمية بين وضع الإخوان فكرًا وتنظيمًا وحركةً قبل محنة الستينات وبعدها يعرف أن الوضع قبل المحنة كان أفضل وأقوى منه بعد زوال المحنة واستمر التدهور من يومها حتى الآن، ولكن بالنظرة الإستراتيجية خرج الإخوان من المحنة الناصرية منتصرين لأن هدف عبدالناصر ومن معه كان القضاء عليهم ففشل في ذلك، وعندما لا يحقق عدوك – لو جاز هذا اللفظ – غرضه من الهجوم عليك فتكون أنت المنتصر لأنك منعته من تنفيذ هدف هجومه.
عند محاولة الجواب على سؤال “هل انتهى عصر الجماعة؟” تحتاج لأن تفصل بين العصر الفكري للجماعة والعصر التنظيمي للجماعة، الثاني تابع للأول وليس العكس، فانتهاء العصر التنظيمي ليس بالضرورة انتهاء العصر الفكري، ولكن انتهاء العصر الفكري – بلا شك – سيتبعه انتهاء العصر التنظيمي، وللإجابة عن السؤال يجب أن نسأل سؤالًا أسبق وهو: “متى ينتهي الفكر ومتى ينتهي التنظيم”؟
الأفكار لا تنتهي بالمنع ولا بالحظر ولا بالمصادرة ولا بالمطاردة ولا حتى بقتل معتنقيها والمدافعين عنها، هذه الأفعال مع الأفكار تزيدها قوةً وثباتًا ورسوخًا في نفوس معتنقيها وأحيانًا تزيدها تطرفًا وتشددًا، الأفكار تنتهي عندما تهزمها أفكار أخرى، تهزمها بالمنطق والنقاش والحوار لا بالبندقية والمشنقة.
فلكي ينتهي فكر الإخوان لا بد من هزيمة فكرية له تنقض أصوله وفروعه، تنسف أطروحاته وقيمه ومبادءه، وبما أن فكر الإخوان مبني على نظرية شمولية الإسلام، فلكي ينتهي لا بد من بروز أفكار تنافس الفكر الإخواني في عقر داره وفي ملعبه، أفكار تحقق الأهداف التي يتمنى الفكر الإخواني أن يحققها.
على الساحة الإسلامية الآن منافسان قويان لفكر الإخوان: الفكر الجهادي الذي تمثله جبهات المقاومة المسلحة في سوريا والعراق، والفكر الليبرالي الإسلامي الذي قد يكون حزب العدالة والتنمية متبنيًا له بشكل آو بآخر وأطروحات راشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو وطارق رمضان قريبة من هذا النموذج.
الفكر الجهادي كان منافسًا لفكر الإخوان في مصر في السبعينات والثمانينات وكان هو السائد في بعض محافظات الصعيد، ثم حدث ما حدث للفكر الجهادي من تصادم ومواجهة ثم مراجعات وانتهت قصته في هذه الفترة، ومع بزوغ نجم الثورة السورية وتأطيرها الجهادي ثم الانقلاب المصري وتضييق الخناق على الحراك والقتل والاعتقال والتشريد والتعذيب والاغتصاب وفقدان الأمل في التغيير السلمي الديمقراطي وعدم قبول العالم الغربي بالتيار الإسلامي كفصيل سياسي يحكم، كل هذا أدى لحالة احتقان شديدة ورغبة في الثأر والانتقام وإشفاء الغليل.
ثم ظهر تنظيم الدولة ومن قبلها جبهة النصرة والانتصارات التي حققتها الأولى في العراق وسوريا وتمددها وانتقامها من مخالفيها ومعارضيها وأيضًا من أذناب النظام السوري والعراقي (فتنة القوة)، كل هذا فتن شباب التيار الإسلامي وكثيرًا من الشباب العادي بهذا النموذج مقارنة بفكر إخواني يرونه خانع مستسلم تعَوَد على السجن والاعتقال من أيام عبدالناصر حتى الآن.
هذا التيار الفكري الجهادي يزاحم الإخوان بقوة على الساحة في بعض البلاد، بل وضيق الخناق تمامًا على فكر الإخوان في بلاد أخرى.
أما في مصر فهو يزاحم بقوة، ومع اشتداد الوضع كسب هذا الفكر نقاطًا وأحرز أهدافًا، وليس من المستبعد لو نفذت أحكام الإعدام في مصر أن نرى انفجارًا كبيرًا يحزر أهدافًا في مرمى الإخوان لصالح الفكر الجهادي، الذي قد ينتشر كالنار في الهشيم إن وجد حاضنة أقليمية تُموِله.
يبقى العائق الأساسي وراء انتشاره هو الحاضنة الشعبية لهذا الفكر – والتي بدأت تتكون في بعض الأماكن كسيناء -، أو بمعنى آخر تحويل هذا الفعل الفكري إلى عمل حركي واسع ومنتشر جغرافيًا وميدانيًا، في ظروف كبلادنا لو توفرت الحاضنة الداخلية والخارجية سينتشر هذا الفكر ويقوى، وسنرى تحول كثير من شباب الإخوان وغيرهم إلى الفكر الجهادي خصوصًا مع تزايد القهر وفقدان الأمل في التغيير السلمي.
تيار الإسلام الليبرالي أو الإسلام المنفتح أو الليبرالية الأخلاقية كما يحلو لبعض الأتراك تسميتها، هو تطوير لفكر الإخوان – كما يرى البعض – ، هذا التيار أقدر على جمع الاختلافات تحت رايته، يبحث عن المشترك بين الجميع ولا يرفع راية الأيدلوجية في الصراع، يهتم بالمقاصد النهائية من الإسلام دون التفرع للجزئيات، يهتم بالإستراتجيات والخطط المحددة ولا يعرف الشعارات البراقة فقط.
هذا الفكر مثاله الواضح حزب العدالة والتنمية التركي على الرغم من إنكاره أحيانًا لهذه الصفة الإسلامية، ويظهر معه حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية المغربي وإن كانت تجربته لم تنضج بعد، يقاربهم في مصر حزب مصر القوية وحزب الوسط.
هناك من يري أن هذا الفكر ليس منافسًا لفكر الإخوان ولكنه تطوير له يواكب الظروف والأحداث ولا يقف عند الحاجز الزمني لمرحلة الإمام المؤسس.
أنا أرى أنه منافس لفكر الإخوان الحالي الذي يبدو أنه لن يتغير ولن يتطور حاليًا ولا في الزمن القريب، وفي نفس الوقت هو تطوير لفكر الإخوان إذا أرادوا التقدم للأمام، سيكون منافس قوي لفكر الإخوان عندما تتبناه مجموعة قوية وقادرة على الفعل والحركة والتغيير.
هذا الفكر كان منافسًا شرسًا وقويًا للإخوان منذ ثورة يناير وحتى وقوع الانقلاب، هذا الفكر كان جاذبًا للشباب داخل الجماعة وخصوصًا القيادات الشبابية المثقفة والتي لعبت دورًا مهمًا في الثورة، لكي تتأكد؛ انظر إلى كمية الشباب التي تركت الجماعة أو فصلت منها في هذه الفترة، تابع توجهاتهم وأفكارهم والرؤى التي تبنوها، ستجدها تصب في هذا الاتجاه.
للآسف الانقلاب ضيع فرصة كبيرة على هذا التيار للنمو، لأنه تيار وفكر لا ينشأ ولا يتطور ولا ينمو إلا في ظروف ديمقراطية تقوم على الحوار والنقاش وتبادل الأفكار، هذا التيار لو امتد عمر الفترة التي سادت فيها الحرية في مصر كنت اتوقع أن يكون حزب الأغلبية في ظرف عشر سنوات.
هذا التيار موجود الآن على الساحة ولكنه ضعيف، يوجد خارج الإخوان ولكن تصرفات بعض منتسبيه أساءت له وأبعدته عن قاعدته الشعبية التي كان سيستطيع أن يجتذب أناس منها يومًا بعد يوم، وقراءة بعضهم الخاطئة لمسار يوليو وتأييدهم له ظنًا منهم أنه سيؤدي لديمقراطية حقيقية.
هذا التيار أيضًا موجود داخل الإخوان وخصوصًا داخل الشباب ولكن وجود ضعيف وغير مؤثر ومحصور في نطاقات قليلة، والآن داخل الإخوان لا توجد قنوات للتحاور أو تبادل الأفكار والنقاش بسبب المطاردة الأمنية والبطش الاستبدادي، ففرصة نمو هذا التيار داخل الجماعة حاليًا ستظل ضعيفة ومحدودة.
إذًا فالجانب الفكري داخل الجماعة وهو النواة التي يلتف حولها هيكل الجماعة يعاني في هذه الفترة من منافسة من جانب تبني خيار القوة والمواجهة والتصادم مع قوى الانقلاب ومن رضى بها وساعدها وعاونها وسكت عليها ولو كان إخوانيًا، هذه هي المنافسة الفكرية الشرسة الحالية التي تواجه الفكر الإخواني، وهي نفس منافسة فكرة التكفير التي نشأت في سجون عبدالناصر وتصدى لها المستشار حسن الهضيبي المرشد الثاني للجماعة، لكن التصدي لهذا الفكر حاليًا ليس بسهولة الماضي بسبب اختلاف البيئة والظروف.