ترجمة وتحرير نون بوست
ما يجري اليوم في تركيا يبدو وكأنه حالة ديجافو “وهم سبق الرؤية” مستمرة، ولكن هذه الحالة لا تتبدى بصورتها الحسنة، فالأتراك ينتابهم الشعور مرة أخرى بأنهم محاصرون بالأعداء والتهديدات، إنهم يشعرون بانعدام الأمان.
غالبًا ما يسمى هذا الشعور بـ “متلازمة سيفر”؛ فبعد معاهدة سيفر التي قسّمت الأراضي العثمانية بين القوى الأوروبية، شن آباؤنا المؤسسون حرب الاستقلال لتمزيق وإفشال هذه المعاهدة، وبسبب تلك المقاومة ما زلنا، نحن الأتراك، في أرضنا، ولكن القلق حول قيام كيان ما بالقدوم في أي لحظة ليصادر حياتنا بأكملها لم يتبدد على أرض الواقع، حيث يبدو بأن الأتراك وفي السنوات القليلة الماضية طوروا بدايات لمتلازمة سيفر، والآن، ومع تحليق الطائرات الروسية فوق رؤوسنا، يمكن للمتلازمة أن تطغى علينا كمواطنين أتراك وتتبدى بكامل قوتها.
كنت أبحث مؤخرًا في نتائج الاستطلاع الأخير حول تركيا الذي أجراه صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، اختصارًا (GMFUS)، وأحد الأسئلة التي طرحها هذا الاستطلاع تمثل بـ”بعض الناس يعتقدون بأن تركيا تلعب دورًا نشطًا في منطقة الشرق الأوسط، البلقان، وأسيا الوسطى، ويرى آخرون بأن تركيا يجب عليها أن تحل أولًا مشاكلها الداخلية، أي من هذه الآراء هو الأقرب إليك؟”
70% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع، والذين ينوف عددهم عن الـ 1000، يرون بأن تركيا عليها أن تركز أولًا على مشاكلها الداخلية، و10% لم يصوتوا سلبًا أو إيجابًا، وفقط 20% من المستطلَعين يرغبون برؤية تركيا تلعب دورًا أكثر نشاطًا في المنطقة، ونتائج هذا الاستطلاع توضح بأن الأتراك تبرموا من السياسة الخارجية، وعادوا إلى موقفهم القديم الذي يحبذ أن تتجنب تركيا الصراعات الإقليمية، وتُترك لشأنها الخاص.
ولكن هل هذه هي عوارض متلازمة سيفر؟ ليس تمامًا، كون متلازمة سيفر ولدت من رحم الضعف التركي في عشرينات القرن الماضي، وهي تعبّر عن حالة الألم الهائل التي شعر بها الشعب التركي جرّاء انهيار الإمبراطورية، وتصميمه على بناء المستقبل؛ فلا أحد آنذاك كان يعرف أي نوع من البلدان سيترعرع فيها الأطفال الأتراك، وهذا الشعور الذي تصوّر بخوف الشعب من الوقوف على شفا حفرة من الفوضى، ساعد على حشد المواطنين في جميع المجالات، وفي نهاية المطاف قادهم لبناء شيء جديد، دولة حديثة من شأنها أن تمنع حدوث أي أمر، ولو من بعيد، على غرار معاهدة سيفر مرة أخرى، وكان أول شيء ركزت عليه الدولة في خضم هذا النهج هو المشاكل الداخلية للبلاد، وبالنسبة لي، هنا يبدأ تشابه ذاك الوقت مع الوقت الحاضر وهنا تمامًا ينتهي أيضًا؛ فالأتراك تبرموا، مرة أخرى، من اتجاه دولتهم للخوض في غمار مغامرات المنطقة، ويودون أن يروا زعماءهم يركزون على مشاكل تركيا الداخلية.
ولكن علينا هنا أن نكون واقعيين، كون المشاكل الداخلية التي يود المستطلَعون في استطلاع صندوق مارشال الألماني أن تركز عليها تركيا اليوم هي بالتأكيد ليست بحجم المهمة التي كانت تواجه آباءنا المؤسسين في عشرينات القرن المنصرم، كون مشروع الدولة الذي عملوا عليه لاقى نجاحًا منقطع النظير؛ فالإسلاميون اندمجوا بالفعل في الجهاز السياسي للدولة، ونحن الآن نعاني من آلام دمج الأكراد بالدولة كذلك، والقوة التحويلية التي شهدتها أنقرة تبدو جيدة وفعّالة ومستمرة، ومجرد إلقاء نظرة على قصة حياة أحدث مدعاة للفخر الوطني، البروفيسور عزيز سانجار، أحد الفائزين الثلاثة بجائزة نوبل للكيمياء في عام 2015، يدلل على القوة التحويلية للجمهورية التركية، كون العالم التركي هو الطفل السابع من عائلة مؤلفة من ثمانية أطفال مولودين لوالدين أميين في مقاطعة صغيرة في جنوب شرق الأناضول، ورغم هذه الظروف السيئة أصبح سانجار أول عضو تركي ضمن الأكاديمية الوطنية للعلوم في عام 2005، والآن، أصبح ثاني مواطن تركي يحصل على جائزة نوبل، بعد الكاتب التركي أورهان باموق، الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 2006.
لذلك، اسمحوا لي أن أقول لكم، بأنه لا يوجد ما يستحق أن تنهض لأجله متلازمة سيفر من الموت، وإنني، كما كان آباؤنا المؤسسون، مؤمن بإمكانات تركيا لتحقيق أشياء عظيمة، ولكننا نعاني من انعدام تام بالقيادات المؤهلة بالمقارنة مع قياداتنا التي حكمت في عشرينات القرن الماضي، مما يصعّب من مهمة التعامل مع كافة المشاكل الحالية، وبجميع الأحوال، دعونا ننتظر لنرى ما الذي لدى صناديق الاقتراع لتقوله حول ذلك.
المصدر: حريت ديلي نيوز