ترجمة وتحرير نون بوست
من شبه المؤكد بأنه في نقطة واحدة أو بأخرى، سيدرك الروس بأن ثمن المغامرة الأكبر التي يلعبونها، والمتمثلة بتقويض سلطة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه، ستنطوي على تقويض أنفسهم أكثر مما هم عليه الآن؛ ففي الوقت الذي حققت فيه قوات الأسد بعض التقدم، لا سيما في سهل الغاب، سرعان ما فقدت معظم ما كسبته، ومحاولات هذه القوى لتحقيق انفراجة في مناطق أخرى، كحماة وإدلب، فشلت بشكل ذريع، ولم يتم تحقيق أية إنجازات أو نجاحات كبيرة.
كما قلنا سابقًا، بوتين لا يتمتع بتفوق نوعي في سورية ما لم يقرر استخدام القوات البرية، فإضافة الصواريخ إلى البراميل المتفجرة، ليس نهجًا كافيًا لتغيّر الخطوة الروسية قواعد اللعبة، وذلك إذا ما نظرنا إليها من منظور الوضع العسكري الفعلي على أرض الواقع، حيث تبدو خطوة الرئيس الروسي مفيدة في عالم المفاهيم وحسب، وهو المنظور الذي لا ينبغي الاستهانة به بجميع الأحوال.
ولكن مع ذلك، نادرًا ما تستمر المفاهيم لفترة طويلة، والسؤال الرئيسي يجب أن يكون هنا، هل يدرك الرئيس الروسي بأنه سيستنفد رأس ماله في سوريا بشكل أسرع مما يتوقعه العديد من المحللين في موسكو؟ لأنه إذا كان يدرك ذلك، فيمكننا أن نتوقع انطلاقة حيوية لإيجاد حل سياسي في سورية بشكل أسرع مما يتوقعه معظمنا.
في الوقت الحالي، يتعلق الموضوع بالمفهوم الذي يحمله بوتين ذاته عن الحرب أكثر من تعلقه بمحاولة الأخير بالسيطرة والتلاعب بالآخرين، ومع ذلك، فإن الديناميكيات الحالية تزودنا بصورة صعبة حقًا، ويمكن تلخيص هذه الصورة على النحو التالي؛ التحركات الروسية الصفيقة في سورية، ليست عبارة عن رحلة دخول وخروج قصيرة وسهلة، فما بين الدخول والخروج المقتضب يمكن لبوتين أن يحقق تصوراته المفاهيمية في سورية، ولكنه في الوقت عينه سيكون قد حرر أيضًا قوى لا تؤمن بالرحلات القصيرة، وبالنسبة لهم، كلما طالت فترة إقامة روسيا في سورية، كلما كانت النتائج أفضل.
أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة التابع لتنظيم القاعدة، أصدر خطابًا مسجلًا ناشد من خلاله جميع فئات المعارضة السورية للـ “توحد معًا لمحاربة الصليبيين الروس”، ودعا الجولاني أيضًا لزيادة الهجمات على القرى العلوية المحيطة باللاذقية.
في الوقت عينه حقق تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) انتصارات إستراتيجية في شمالي شرق مدينة حلب، وأصبح الآن قاب قوسين أو أدنى من الدخول إلى قلب مدينة حلب القديمة، وبالتالي فإن أي اتفاق ما بين الجماعات المعارضة التي تعمل داخل وحول مدينة حلب من جهة، وبين عناصر تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى، سوف يحتّم مصير الجزء المتبقي تحت سيطرة قوات الأسد في مدينة حلب، وسيتسبب بفظائع، لم يسبق وأن شهدنا مثيلًا لها، ضد الأقليات التي تعيش في هذا الجزء من المدينة، والتي بقيت بمعظمها مخلصة ومؤمنة بالأسد.
إذا قُدّر لنا أن نحضر خطبة في المسجد المركزي بمدينة منبج التابعة لمحافظة حلب، في يوم الجمعة 9 أكتوبر، فإننا سوف نتجابه ببعض العظات والكلمات الهامة للغاية، مدينة منبج التي كانت تضم حوالي 110.000 نسمة، ووصل تعدادها الآن إلى حوالي 50.000 أو 60.000 نسمة، تقع بالقرب من جنوبي الحدود التركية، وعلى بعد حوالي 20 ميلًا غرب نهر الفرات، وأولئك الذين فروا من منازلهم هناك، نزحوا إلى مخيمات اللاجئين في تركيا، في تلك المدينة سنسمع إمام المسجد، الذي تعهد بالولاء لداعش، ويُكنى بالاسم الحركي، أبو مسلم، يلقي خطابًا ملتهبًا يقول فيه “اتهمونا بالتطرف، ولكن الحقيقة كشفت عن نفسها اليوم، سقطت أقنعة الغرب الزنديق والشرق الملحد، لقد حشدوا مواردهم لمحاربة دولة الخلافة، ولكن دولتنا ستصل إلى موسكو رغمًا عن أنوفهم”.
التعبئة والتجنيد والتوسع في صفوف داعش يجرون اليوم على قدم وساق بشكل غير معهود سابقًا، فبغض النظر عن المناطق الإستراتيجية الجديدة التي سقطت مؤخرًا في أيدي مقاتلي داعش، يطفق جو من النشوة بين أعضاء التنظيم وأنصاره مع ارتفاع مشاعر الشعور بموقع الضحية والانكشاف والتحدي في أوساط أعضاء الجماعات المسلحة الأخرى، وهذا الشعور العام في منطقة كمنطقة شمالي حلب يحفز الشعور بأن التوحد ما بين جميع الجماعات المعارضة، بما في ذلك داعش وجبهة النصرة، أصبح ضرورة ملحة؛ فمثلًا قوبل البيان المقتضب والصغير الذي أصدره عدد قليل من قادة جماعة نور الدين الزنكي المعارضة والذي يدين النصرة لخطف عدد من مقاتلي الجماعة، ببيان فوري وقعه عدد من أهم وأرفع قادة المعارضة يدعو إلى التوحد، ويصف أعضاء جبهة النصرة باسم “أخوة السلاح”.
التحول الآخر الذي يحتل مكانًا وسط رحلة دخول وخروج بوتين من سورية، يتمثل بأن مستوى تسليح عناصر المعارضة السورية يبدو بأنه يتجه بمسار تصاعدي سريع يومًا بعد يوم؛ لذلك، يمكننا أن نلخص ملامح هذه اللحظة الحساسة بما يلي، بوتين دخل إلى سورية، وهو غير قادر على أن يحدث فرقًا نوعيًا في خضم الاقتتال الجاري ضمن الدولة،كما أن بوتين لا يستطيع أن يستمر بالقتال في سورية لوقت طويل، ولا يمكنه إرسال قوات برية أيضًا، وهو الأمر الوحيد القادر على أن يحدث فرقًا حقيقيًا؛ لذا فإنه سيضطر لإيجاد حل سياسي في الوقت الذي لا تزال فيه المعارضة في أوج قوتها، وهذا الحل سيكون الآن أكثر صعوبة من ذي قبل، لذلك، سيضطر بوتين بأن يقبل باتفاق لم يكن ليقبله في وقت سابق.
وبعبارة أخرى، فإن بوتين لن يرمش جفنه في سورية فحسب، بل إنه قد يجد نفسه مضطرًا لإغلاق عين كاملة للنجاة من المستنقع الذي انخرط به.
إذن، ما الذي علينا أن نتوقعه في الأسابيع القليلة القادمة؟
لقد شهدنا بالفعل إغلاق مطار حميميم، القاعدة الرئيسية للقوات الروسية والإيرانية في ضواحي اللاذقية، فجأة أمام الرحلات الجوية المدنية، كما أن الأجزاء الجنوبية من مدينة اللاذقية، التي يقطنها السكان السنة بالغالب، ترزح تحت وطأة حظر التجول المفترض، ونقاط تفتيش وحدات الجيش والشبيحة في المدينة تمارس إرهابها ضد السكان في وضح النهار والليل، فضلًا عن أن حالات الاعتقالات التعسفية أصبحت أكثر تواترًا من ذي قبل، وأمام هذه الواقع، ينبغي علينا أن نتوقع حصول هجمات على القوات والمباني الحكومية في أي وقت قريب، فنحن لم نر أي حالة مماثلة في منطقة الشرق الأوسط لم تستقطب مثل هذه الهجمات.
الوضع في حماة لا يختلف كثيرًا، ففي الوقت الذي ينخرط فيه المقاتلون الإيرانيون ومقاتلو حزب الله مع جيش الأسد بمشروع طموح لاستعادة السيطرة على الشمال الغربي، يبدو بأن هذه القوات تأمل بشكل غير واقعي أن تحافظ على المناطق التي تقع تحت سيطرتها بشكل هادئ.
بالمختصر، حفز قرار بوتين بخصوص الأزمة السورية على تصعيد مستوى الأزمة إلى الأعلى، وضمن هذا المستوى العالي، سيكتشف بوتين بأنه استنفد بالفعل السهام القليلة التي كان يحملها في جعبته؛ ففي خضم فتحه لحرب ضدهم، ساعد بوتين أعداء الأسد لتعزيز ترساناتهم وإغلاق صفوفهم، وعندما ستبدأ محاولات بوتين لمباشرة رحلة الخروج من سورية، سيدرك بأن ما فعله على أرض الواقع يتلخص بأنه استقطب النزاع نحو محصلة صفرية أكثر من أي وقت مضى.
بخروج روسيا من سورية، سيتكبد المجتمع العلوي خسارة مأساوية، وسيضطر نظام الأسد للقبول بحلول سيئة، كما ستفقد سوريا فرصتها الضئيلة السانحة لتأسيس مستقبل تعددي ينتفض من تحت أنقاض وغبار الأزمة.
لقد أصبح من الصعب في هذه الساعة المتأخرة تحقيق الاستقرار في سورية، ولم يعد أمامنا سوى متسع صغير للغاية من الوقت لإيجاد حل سياسي، ولكن مع ذلك، من المرجح أن يتم إغلاق هذا المتسع قبل استخدامه أساسًا، وموقف اللاعبين المختلفين على الأرض السورية لم ينضج بما فيه الكفاية بعد ليسمح باتخاذ خطوة سريعة نحو الحل.
هل هذا تنبؤ متشائم لمسار الأحداث في سورية؟ للأسف، إنه ليس كذلك، فالمخيف أن هذا هو ما يحدث على أرض الواقع.
أحسنت يا بوتين، داعش ستكون ممتنة لك حقًا.
المصدر: ميدل إيست بريفنج