تصدر الحق في التشغيل هتافات الشباب التونسي أثناء ثورة 14 يناير 2011، ومثل أحد أهم مطالبهم المستعجلة، غير أن هذا القطاع، وبعد أربع سنوات من الثورة، مازال على حاله بل ازداد تعقيدًا، حسب العديد من المتابعين، فأزمة التشغيل في تونس ما فتئت تتضخم يومًا بعد يوم، حتى أضحت تتصدر قائمة أولويات الدولة والمواطن على حد سواء، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية التي تمر بها البلاد، وعجز الدولة عن الاستجابة لتطلعات العاطلين عن العمل.
ورغم محاولة مسؤولي البلاد وحكام تونس بعد الثورة التقليل من حدة هذه الأزمة وطمأنة المواطن ببعض المسكنات؛ فإن معدلات البطالة، خصوصًا لدى أصحاب الشهادات العليا، في ازدياد مطرد، حيث لم يتغير واقع سوق الشغل كثيرًا عما كان عليه الأمر قبل الثورة، فقد بلغت نسبة البطالة في تونس حسب إحصائيات رسمية صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء، 15.2% بواقع 601.4 ألف شخص إلى نهاية مارس 2015 من مجموع السكان الناشطين الذين بلغ عددهم 3.991 مليون مقابل 605.8 ألف عاطل عن العمل في الفترة ذاتها من 2014، منهم 222.9 ألف عاطل من حاملي الشهادات العليا إلى نهاية مارس 2015، وتقدر بذلك البطالة لدى هذه الشريحة بنسبة 30% مرشحة للازدياد، خاصة في ظل ارتفاع عدد الخريجين الجدد من الجامعة التونسية ليبلغ قرابة 80 ألف سنويًا، بعد أن كان لا يتجاوز 40 ألفًا، إلى جانب تواصل تراجع نسب النمو الاقتصادي ووقعه السلبي على توفير فرص الشغل.
وفي مقابل ذلك بلغت نسبة البطالة في تونس سنة 2010 13%، أي ما يعادل 491.8 ألف عاطل عن العمل، منهم 138.9 ألف صاحب شهادة جامعية عليا أي بنسبة23.3 % من مجموع العاطلين عن العمل في البلاد.
ورغم ارتفاعها فإن هذه النسبة تظل عامة ولا تعكس بدقة واقع التشغيل في مختلف مناطق تونس، حيث تصل النسبة إلى 26% في جهة الجنوب الغربي لتونس، و22.2% في الجنوب الشرقي، بينما لا تتجاوز 8.9% في الوسط الشرقي، حيث المدن الساحلية والسياحية، و10.4% في الشمال الشرقي.
ويرى العديد من الخبراء أن تزايد التدفق العددي على سوق العمل من بين الشرائح العمرية الشبابية سيعمق معضلة البطالة في تونس؛ حيث يتوقع أن يتجاوز معدل طلبات العمل الإضافية 100 ألف، إلى جانب تزايد التدفق العددي لخريجي الجامعات على سوق العمل وعدم إيجادهم فرص شغل مناسبة لتكوينهم الجامعي، خاصة في ظل ظهور أزمة في عدم التطابق بين مخرجات الجامعة وبين سوق التشغيل أي عدم التناسب بين العرض والطلب.
أسباب ارتفاع نسب البطالة
ومع تواصل انخفاض نسب النمو الاقتصادي في تونس عقب الثورة، جراء ما تشهده البلاد من اضطرابات أمنية واجتماعية، وأيضًا بسبب تواصل حالة الركود الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي الأول لتونس، ازداد عجز الحكومات المتعاقبة على وضع السياسات الكفيلة بخلق ما يكفي من الوظائف لامتصاص الأعداد الوافدة إلى سوق الشغل، ولا سيما الشباب الحاصل على الشهادات العليا. ويرجع متابعون استفحال ظاهرة البطالة الى اعتماد تونس على إستراتيجيات نمو تقوم على القطاعات المنخفضة المهارة، التي تعتمد على اليد العاملة الرخيصة، وهي قطاعات في مجملها لا توفر فرص عمل كافية للوافدين إلى سوق العمل مِمِّن هم على درجة عالية من التعليم مثل المنسوجات وصناعة الملابس، والسياحة المُوجَّهة لذوي الدخل المتوسط والضعيف من الأوروبيين، بالإضافة إلى أن تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي أدى إلى خفض الاستثمار الحكومي في خلق طاقات إنتاجية جديدة تستوعب الأيدي العاطلة.
ويلاحظ جون لوك برناسكوني، الخبير الاقتصادي الرئيسي بمكتب البنك الدولي في تونس، أن القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية في تونس (الصناعة والزراعة والخدمات) ضعيفة لذلك يقتصر الطلب فيها على عمالة بسيطة وزهيدة الأجر، ويقول إن توفير فرص عمل في القطاع الخاص لخريجي الجامعات يستوجب الاستثمار في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية.
وعلى الرغم من وجود خطة وطنية للتنمية تهدف إلى تحويل الاقتصاد إلى الأنشطة ذات القيمة المضافة المرتفعة، والتي تحتاج إلى معرفة كثيفة، إلا أن الحكومة لم تستطع حتى الآن تحويل هذه النية إلى واقع، على نحو فعال.
ويؤكد برناسكوني أن القطاع الخاص في تونس ليس بإمكانه خلق فرص عمل للخريجين ما لم ترفع الدولة “القيود” و”المكبلات” الإدارية والبيروقراطية أمام المستثمرين سواء التونسيين أو الأجانب.
وفي رأي برناسكوني أن السياسات “الحمائية” التي تتبعها الدولة جعلت نحو نصف الاقتصاد التونسي مغلقًا أمام المستثمرين وبالخصوص في قطاعات الاتصالات والنقل والخدمات التي تحتكرها شركات عمومية أوعدد قليل من الشركات الخاصة.
ومن ناحية أخرى تركت الأزمة في ليبيا أيضًا بصمتها في تفشي البطالة في تونس؛ فهي تمثل أول سوق لتونس من حيث الصادرات، وقد شهدت انخفاضًا فاق 50%، مما أحدث انفجارًا في عدد العاطلين من الشباب بلغ في بعض المناطق الداخلية نسب مرتفعة، إلى جانب ذلك أثرت الأزمة الذي يشهدها القطاع السياحي وفقدان عشرات الآلاف من مواطن الشغل جراء الأحداث الإرهابية التي تضرب البلاد، وانخفضت الاستثمارات الغربية وخاصة الأوروبية في البلاد التونسية على قطاع التشغيل.
آليات مواجهة هذه الظاهرة
ولمواجهة ارتفاع نسب البطالة في البلاد اعتمدت الدولة التونسية بعض الآليات التشغيلية لفائدة العاطلين عن العمل، وتتمثل هذه الآليات المتبعة من طرف وزارة التكوين والتشغيل في آلية تربصات الإعداد للحياة المهنية “SIVP”، الغاية منها اكتساب المنتفع بها من ذوي الشهادات العليا مهارات مهنية لتيسير إدماجهم في الحياة العملية، الفترة الزمنية لهذه الآلية سنة قابلة للتجديد، ويشترط في المترشح أن يكون طالب شغل لأول مرة وحاصل على شهادة تعليم عال أو على شهادة معادلة منذ مدة لا تقل عن 6 أشهر، ويكون هذا التربص بالأساس بمؤسسات القطاع الخاص، على أنه يمكن أن يتم بالقطاع العمومي.
بالإضافة إلى ما يسمى بآلية 50%، أو ما يسمى بعقد إدماج حاملي شهادات التعليم العالي، والتي تهدف إلى تمكين المنتفع بها من اكتساب مؤهلات مهنية بالتّناوب بين مؤسسة خاصة وهيكل تكوين عمومي أو خاص ،وذلك وفقًا لمتطلبات موطن شغل تتعهد المؤسسة بانتدابه فيه، ويشترط أن يكون المترشح حاصلًا على شهادة تعليم عال أو على شهادة معادلة، وتجاوزت فترة بطالته 3 سنوات بداية من حصوله على الشهادة المعنية.
وأيضًا برنامج البحث النشيط عن العمل (أمل) والتي تسند خلالها منحة شهرية بقيمة 200د (قرابة 100 دولار شهريًا) وتغطية طبية لمدة أقصاها سنة لحاملي شهادات التعليم العالي العاطلين عن العمل.
كما نجد آلية برنامج الخدمة المدنية التطوعية، والتي تستهدف حاملي شهادات التعليم العالي من طالبي الشغل لأول مرة، وبعض الآليات الأخرى.
غير أن هذه الآليات ورغم أهميتها لا تعدو أن تكون مسكنات وقتية ريثما تهتدي الحكومة مع القطاع الخاص والمستثمرين لإحداث مواطن شغل دائمة وثابتة، كما أنها حسب عديد المنتفعين بها لم تؤدِ الحاجة المنوطة في عهدتها خاصة أمام تحايل بعض أصحاب المؤسسات، التي تستغل هذه الميزات وتعمد إلى التخلص من المتربصين الذين انتهت فترة عقدهم دون انتدابهم، وتطلب تعويضهم بمتربصين جدد ليستمر تمتعها بالإعفاءات والامتيازات.
تداعيات انتشار البطالة في تونس
تعد هجرة الكفاءات العلمية من أبرز تداعيات ارتفاع نسب البطالة في تونس، وبالتالي فقدان الوطن لإمكانات هذه الكفاءات العلمية والفكرية والتربوية التي أنفق على تعليمها وإعدادها أموالًا وجهودًا كبيرة، حيث تؤدي هذه الهجرة لإعاقة عملية التقدم، وإبطاء حركة التنمية وإضعافها في هذه الدول.
وإلى جانب ارتفاع نسب هجرة الكفاءات العلمية نتيجة انتشار البطالة، تتسع أيضًا ظاهرة الهجرة غير الشرعية بشكل ربما يفوق الهجرة المماثلة في التجارب الأخرى، وذلك على رغم شدة القيود المفروضة على الهجرة، مما ولد ظاهرة سميت بقوارب الموت التي تحمل المهاجرين.
كما يشير متابعون إلى الإفرازات الأمنية للبطالة وانعكاساتها النفسية على العاطلين، فالعديد من الدراسات تشير إلى أنه يمكن للبطالة أن تؤثر في مدى إيمان الأفراد وقناعتهم بشرعية الامتثال للأنظمة والمبادئ والقواعد السلوكية المألوفة في المجتمع، وبذلك فإن البطالة لا يقتصر تأثيرها على الاستعداد للانحراف، إنما تعمل أيضًا على إيجاد فئة من المجتمع تشعر بالحرية في الانحراف، ووفقًا لهذه القناعة والإيمان فإن انتهاك الأنظمة والمعايير السلوكية العامة أو تجاوزها لا يعد عملًا محظورًا في نظرهم، لأنهم ليسوا ملزمين بقبولها أو الامتثال لها.
واتساقًا مع هذه النتائج تشير دراسة أخرى إلى أن الفقر والبطالة يؤديان إلى حالة من شعور الرفض والعداء تجاه المجتمع وعدم الإيمان بشرعية أنظمته والامتثال لها، مما يؤدي إلى الانحراف والسلوك الإجرامي، وبخاصة فيما يتعلق بجرائم الاعتداء على النفس.
كما أن البطالة تؤدي إلى انخفاض أواصر الروابط التي يحملها الناس تجاه المؤسسات الرسمية والأنظمة والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع، وتحد من فاعلية سلطة الأسرة بحيث لا تستطيع أن تقوم أو تمارس دورها في عملية الضبط الاجتماعي لأطفالها، أضف إلى ذلك أن حالة البطالة عند الفرد يمكن أن تخلق كثير من مظاهر عدم التوافق النفسي والاجتماعي، إضافة إلى أن كثيرًا من العاطلين عن العمل يتصفون بحالات من الاضطرابات النفسية والشخصية، فمثلًا يتسم كثير من العاطلين بعدم السعادة وعدم الرضا، والشعور بالعجز وعدم الكفاءة، مما يؤدي إلى اعتلال في الصحة النفسية لديهم.