في ليلة من ليالي صيف 1987، وبينما كانوا يتسكعون سكاري في شوارع أوكسفورد، قررت مجموعة من الشباب أنيق المظهر، والذين لا تتجاوز أعمارهم 24 عامًا، أن يتجهوا إلى منزل أحد زملائهم في الجامعة ليعبثوا فيه على ما يبدو، وخلال وقت قصير كانت مزهرية قد ألقيت باتجاه نافذة إحدى المطاعم الزجاجية وكسرتها، لتأتي سيارة الشرطة بعد قليل وتبدأ التحقيق في الأمر، بينما فر أربعة إلى حديقة مجاورة مستلقين على بطونهم.
بعد أكثر من ربع قرن من تلك الحادثة، لا تزال تلك الليلة على ألسنة الكثيرين في بريطانيا، حيث كان رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون واحدًا من هؤلاء الأربعة، وكذلك بوريس جونسون عُمدة لندن، بينما كان الآخران من أبناء أثرياء لندن المعروفين بنفوذهم المالي، ولا يزالون إلى الآن، والمجموعة كلها كانت، ومنها وزير المالية الحالي أيضًا جورج أوزبورن، أعضاء بـ”نادي بولينغدون” Bullingdon Club الكائن في أوكسفورد، والذي تقلد الكثير من أعضائه مناصب كثير هامة في المجتمع البريطاني، من البنوك والوزارات وحتى الشركات الكبرى ودور النشر.
تراث السلطة والنفوذ المستمر في بريطانيا
يُعَد بولينغدون وبضعة أندية أخرى نواة للوصول للسلطة في بريطانيا، فالعضوية في أي منها تمنحك علاقات مع الأسماء الكبرى سياسيًا وماليًا وإعلاميًا، وتعطيك نفوذًا كبيرًا أكبر من عضويتك في مجلس العموم البريطاني، كما يفترض أن يكون دومًا في نظام ديمقراطي، وتلك العلاقات بالطبع تؤدي بك بسهولة إلى منصب سياسي أو مالي في المستقبل، دون ممارسة طويلة واكتساب قاعدة شعبية مباشرة كما هي الحال في بلدان أخرى.
على العكس من بلدان أوروبية كثيرة، لم تقم في بريطانيا أية ثورات أو هزات معتبرة أزاحت القصر الملكي والنظام الأرستقراطي غير الديمقراطي المحيط به، بل قامت عملية إصلاح تدريجية استمرت لقرون ولا تزال، مما أدى بالتبعية لتشابك النخب السياسية الصاعدة بالأرستقراطية الموجودة بينما جرى الشد والجذب بينها حيال مصير السلطة في بريطانيا، وإن كان النظام الدستوري قد انتصر في النهاية وأصبح الملك أو الملكة منصبًا رمزيًا، إلا أن تراث ممارسة السياسة الأرستقراطي قد تخلل الكثير من قواعد المنظومة البريطانية، لتبقى الكثير من أوجه غياب الديمقراطية في عملية صناعة القيادات والنخب بلندن.
ديفيد كاميرون (ثاني الواقفين من اليسار) وبوريس جونسون (أول الجالسين من اليمين) في صورة لأعضاء النادي من أبناء اللوردات والأثرياء
بولينغدون هو واحد فقط من أمثلة استمرار الثقافة النخبوية الأرستقراطية في ظل نظام ديمقراطي، فقد تأسس عام 1780، وذكر لأول مرة في وثيقة مكتوبة عام 1795، وكان من المفترض أن يكون ناديًا للكريكت، غير أن عضويته لم تكن مفتوحة، وكان أعضاؤه ينضمون بالدعوة فقط من الموجودين فيه بالفعل، دون أية قوانين واضحة لتوزيع تلك الدعوات، فقد حكمت هنا أعراف الأرستقراطية البريطانية، والتي دفعت القائمين على النادي إما لتوجيه دعوة لصاحب قصر أو مالك جريدة أو منجم ماس في أفريقيا مثلًا، وأعضاء النادي كلهم لا يتجاوزون الخمسين، ومنهم أبناء اللوردات والبارونات وحكام الولايات.
أعضاء النادي بالطبع لا يردون على أحد ممن يحاول مراسلتهم وإجراء حوارات معهم، والطريقة الوحيدة لمعرفة خبايا النادي هي الحديث مع أعضاء سابقين، كما فعل الصحافي الألماني كريستوف شويرمان، والذي التقى عضوًا سابقًا هو جوليان (ليس اسمه الحقيقي، وهو واحد من الموجودين في الصورة أعلاه) في إحدى مقاهي لندن، والذي تلقى تعليمه في مدرسة إيتون، المعروفة باستضافتها أبناء اللوردات والأثرياء وذوي النفوذ، قبل أن يتجه لجامعة أوكسفورد، وهو لا يزال على اتصال برئيس الوزراء وصاحب حضور في الدوائر السياسية البريطانية.
بولينغدون بين الأرستقراطية والديمقراطية
على غرار الحكايات التي طالما سمعها البريطانيون أيام هيمنة القصر الملكي في القرون السالفة، وفضائح الأرستقراطية التي لا تجد من يحاسبها كما يحدث في النظم الديمقراطية اليوم، كان بولينغدون ولا يزال معروفًا بتجاوزات أعضائه، وكأنه دليل يثبت ثقتهم في صلاتهم بالنخب في بريطانيا، والتي تقيهم المحاسبة القانونية المعتادة لما يقومون به في ليالي كثيرة بينما تُنسيهم زجاجات الشامبانيا أنفسهم، فهم أحيانًا ما يقررون تخريب حانة مجاورة، أو الدخول في شجار بالشارع، وكل ما هنالك أن الشرطة تقوم بتغريمهم غرامات يدفعونها بسهولة بالطبع من ثرواتهم، كما فعل أحد أعضاء النادي عام 1977، الذي قاد سيارته بجنون ليصطدم بأخرى ويدمرها تمامًا، ثم يدفع غرامة بعد ذلك وتُسحب منه رخصته نهائيًا.
من بعد تلك الحادثة أصبح أعضاء النادي أكثر حرصًا، ليس خوفًا من القانون، ولكن حرصًا على سمعتهم وعلاقاتهم غير الرسمية، وهم لا يزالون يلتقون إلى اليوم ولكن دون تكسير الزجاج أو الاستسلام للسُكر التام كما كان يحدث حتى سبعينيات القرن المنصرم، ولكن في هدوء بمقر بولينغدون في أوكسفورد، أو ربما في إحدى الفنادق الفاخرة، كما فعلوا منذ أشهر، حيث أقلهم باص صغير، واتجهوا لفندق مانور الفاخر بأوكسفورد شاير.
15 شابًا حضر تلك الليلة، منهم ابن مالك صحيفة ديلي ميل المعروفة، وابن أحد أعضاء مجلس اللوردات وأمين خزانة الحرب المحافظ الحاكم، وحفيد أحد بارونات النفوذ الأرستقراطي في وقت سابق، “لقد ظهروا في ملابسهم الرسمية، وتصرفوا وكأنهم العائلة المالكة،” هكذا يقول جون أحد نادلي الفندق، والذي قدم لهم 50 زجاجة من النبيذ في قاعة تيودور الفخمة، “بعد انتهائهم من العشاء، كان نصفهم تقريبًا قد فقد الوعي تمامًا، بينما جلس النصف الآخر يكسر الأكواب.”
جورج أوزبرون (أقصى اليسار واقفًا) وزير المالية الحالي بحكومة المحافظين مع أعضاء بولينغدون في مطلع التسعينيات
من القلائل الذين يفصحون عن أسرار النادي رُغم عضويته فيه هو مارك بارينغ، المنتمي لعائلة مرموقة في مجال الصرافة، والابن الثاني لرئيس شركة الغاز البريطانية المعروفة “بي ﭙي”، والذي ترك عالم البنوك وكرس حياته لإدارة أملاك أسرته في هامبشاير، حيث تمتلك العائلة أراضٍ كثيرة ودار أوبرا ومزارع عنب مخصصة لإنتاج النبيذ، “أحيانًا ما كسرنا الأطباق أو الأثاث أو أي شيء، ولكننا حاولنا أن نلتزم بالأدب قدر استطاعتنا احترامًا لمالكي الأماكن التي ارتدناها.”
“لقد كانت حفلات العشاء نوعًا من التمرد،” هكذا يقول بارينغ، والذي يظهر في صورة تعود لعام 1980 مع أعضاء النادي، ويقف بجواره كل من فيليب دون، وزير صفقات الدفاع الحالي، وجوناثان كافيندش، منتج سلسلة أفلام بريدجيت جونز المعروفة، بينما يحاول فهم سر الهوس الشديد بنادي بولينغدون، إذ يقول أن أمورًا كهذه اعتيادية بالنسبة للشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها، وهي ربما غريبة فقط من منظور بقية طبقات المجتمع ليس إلا، ثم يتجه لتغطية أسماء أصدقائه أسفل الصورة المذكورة.
***
أوكسفورد إذن ليست معقلًا للدراسة فقط، ولكن لالتقاء أبناء النخب في استمرار لتقاليد بريطانيا الأرستقراطية رُغم تحولها إلى الديمقراطية منذ زمن طويل، غير أن الديمقراطية الإجرائية لم تصاحبها على ما يبدو “ثقافة” ديمقراطية راسخة كما الحال في ألمانيا وفرنسا، فبضعة صداقات مع خلفيات اجتماعية قوية في أوكسفورد كفيلة بأن تصل بك إلى لندن أو حتى مكتب رئيس الوزراء في داونينغ ستريت، أو ربما إلى العاصمة المالية في وول ستريت أو عالم البورصة الآسيوية في سنغافورة.
الكُل يدخل أوكسفورد هنا بحثًا عن الوظائف في المستقبل، ولكن قلة قليلة تأتي هنا، وتتناول العشاء وتُحدث الجلبة في ليالي كثيرة، لا تأتي بحثًا عن الدراسة أو الوظائف، ولكن عن الانطلاق إلى المناصب السياسية والمالية الكبرى مباشرة بعلاقاتها، وبولينغدون بالطبع ليس سوى المثال الأشهر على ذلك الوجه الأرستقراطي للديمقراطية البريطانية.
*هذا المقال منقول بتصرف من مجلة شبيغل