في الخفاء وفي العلن، وعلى مشهد ومسمع من العرب والمسلمين، بدأت المراسم الرسمية لإعلان وفاة الانتفاضة، والشروع في إجراءات دفنها ومواراتها تحت التراب، والتخلص من شبحها المخيف، وحضورها الكابوس، فقد نشطت الجهود والمساعي الدولية لإنقاذ الكيان الصهيوني من الورطة التي أوقع نفسه فيها، والأزمة التي خلقها بسفاهته لنفسه، فهو لم يصعد شجرة ولم يستطع النزول عنها، بل حشر نفسه في جحر ضيق ولم يعد قادرًا على الخروج منه، فبات يصرخ ويضرب برجليه في الأرض، فعفر نفسه وحلفاءه، وزاد من أزمته وتعثر أكثر في حفرته، وبات خروجه منها صعب، إلا أن تمتد إليه أيدي رحيمة ومحبة، وصادقة معه وله مخلصة، لتنتشله من أزمته وتخرجه من حفرته وتنعشه بعد أن ضاق صدره وتحشرج نفسه.
بدأت الإجراءات الرسمية بإقناع الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن سياساتها التي اتبعتها في الحرم القدسي الشريف، فاستجاب نتنياهو وحكومته للنصيحة، إذ لا يملك صدها ولا ردها، ولم يعد يستطيع المعاندة أو المناورة، فهو كالغريق يستجيب لأي يد تمتد له يظن أن فيها النجاة وأنه بغيرها يغرق ويموت، في الوقت الذي لا يريد أن يبدو في هذه المعركة وحيدًا، فهو في حاجة إلى كل شريك وحليف يقف معه ويسانده ويصد عنه الاتهامات ويدافع عنه في المحافل الدولية، فما عاد يستطيع إنكار الصورة ولا نفي الشهادة ولا التنصل من المسؤولية الرسمية عما يقوم به جنوده ومستوطنوه.
إجراءات استخراج شهادة الوفاة والدفن في حاجة إلى أكثر من طرف وجهة، إذ لا يستطيع طرف وحده أن يقوم بكل الإجراءات المطلوبة؛ فهي معقدة ومركبة، وصعبة ومتعددة، وقد لا يقبل أهل المتوفى خبر الوفاة، فكان لا بد من وسيط دولي مقبول وعنده القوة ولديه الإمكانية للحوار والوساطة، وإن كان منحازًا وغير نزيه، ويؤيد العدو ويدافع عنه، إلا أنه الوحيد القادر على لعب هذا الدور في هذه المرحلة، في الوقت الذي تنأى كل الأطراف عن الوساطة والتدخل، لعلمها بأن الحكومة الإسرائيلية ستتفلت من أي اتفاق ولن تلتزم ببنوده وستنقلب عليه في أقرب فرصة.
لهذا تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، وجاء وزير خارجيتها جون كيري إلى المنطقة، حاملًا حقيبته المليئة بالأفكار الغريبة والحلول المسمومة، التي سبق وأن أعلن عنها ناطقون باسم البيت الأبيض والخارجية، الذين أعطوا الحق للحكومة الإسرائيلية بقتل الفلسطينيين بحجة الدفاع عن النفس، وصد الخطر، ومنع الاعتداء، في الوقت الذي نزعت فيه الشرعية عن مقاومة الفلسطينيين، ووصفت دفاعهم عن أرضهم وقدسهم ومسراهم بأنه إرهاب، ودعت السلطة الفلسطينية ورئيسها إلى التنديد بأفعال الفلسطينيين واستنكارها، والإعلان عنها بأنها مرفوضة ومدانة.
بدأت الجلسات تنعقد والخيوط تنسج والمؤامرات تحاك، وشرع جون كيري في لقاء أول مع الملك الأردني عبد الله الثاني، ستتلوه لقاءات أخرى مع مسؤولين عرب، يطالبه بالتخفيف من لهجته، والتراجع عن شروطه، وعدم المطالبة بما أعلنه ووزير خارجيته بأن إسرائيل دولة احتلال وعليها أن تحافظ على الأوضاع في مدينة القدس والمسجد الأقصى دون أي تغيير أو مساس بحاله الذي كان عشية الاحتلال.
جُل ما يريده كيري بالاتفاق مع الإسرائيليين هو عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الانتفاضة، أي أن يعود الإسرائيليون إلى محاصرة المسجد الأقصى، ومنع المصلين من الدخول إليه والصلاة فيه، أو تحديد أعمارهم، في الوقت الذي تنظم فيه الحكومة الإسرائيلية زيارات اليهود الدينية والسياسية إلى المسجد الأقصى في أوقات محددة وبعلم إدارة المسجد الأقصى أو السلطة الفلسطينية، ونسيان ما حدث، والترحم على الشهداء الذين سقطوا، والقبول ببعض الهبات والمساعدات والتسهيلات التي من شأنها أن تعزي ذوي الضحايا وتنسيهم حزنهم وتعوضهم عن مصابهم.
هو لا يريد أن يفرض على الإسرائيليين الاعتراف بالحق الفلسطيني في مدينة القدس، ولا احترام حقوقهم في الصلاة في المسجد الأقصى، والدخول إليه في أي وقت يشاؤون، بل يريد من العرب أن يمدوا للإسرائيليين حبل النجاة، وأن ينقذوهم من هذه الورطة؛ بالدعوة إلى وقف الانتفاضة ومنع عمليات الطعن والدهس، بحجة انتفاء الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة وتفجر الأوضاع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، وبعد ذلك يمكن الحديث والحوار، إذ إن الحوار في ظل التشنج وسيادة العنف سيؤدي إلى مزيد من التأزم وسيحول دون التوصل إلى اتفاقيات دائمة ومريحة تحقق مصالح الطرفين معًا.
ينتظر كيري أن يلتقي بمحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، ليطلعه عن خبر الاتفاق على نعي الانتفاضة وإعلان وفاتها، وسيطالبه بأن يكون أحد الذين يشاركون في إعلان النبأ، فهو من أهل البيت ومن سكان الدار، الأمر الذي سيجعل الفلسطينيين يصدقون هذا الخبر ويعتقدون به، ولن يثوروا ضده ولن يخرجوا عليه، وفي المقابل سيمنحه حزمة من الوعود التي يحملها في حقيبته كعادته، وهي حزمة وعود لا تنفذ وسلسلة بنود لا يتم الالتزام بها، ولكنه يجد نفسه مضطرًا أن يعد بما لا يملك، وأن يتعهد بما لا يستطيع، وعلى رئيس السلطة الفلسطينية أن يصدقه، وأن ينفي عنه أي سابقة في التهرب والكذب والتخلي عن أي وعود والتزامات قطعها على نفسه سابقًا.
يرتكب رئيس السلطة الفلسطينية وأي زعيم عربي ومسلم آخر، جريمة كبرى إذا وضع يده في يد جون كيري، أو صدق كلامه، أو اتفق معه على ما يريد، أو سكت عما يخطط ويتآمر، أو شارك في وأد الانتفاضة والانقلاب عليها، فالانتفاضة لم تمت ولم يعلن أصحابها وأهلها الشرعيون وفاتها، وهم أصحاب الحق الحصري والشرعي في إعلان وفاتها، وهم يعلنون ويؤكدون بالدم أن انتفاضتهم فتية قوية، وأنها عفية عصية، وأنها شابة نضرة، تجري الدماء في عروقها، تسري الحياة في أوصالها، تنمو مع الوقت وتكبر، تقوى وتشتد، تتجذر وتتأصل، وهي أبعد ما تكون عن الموت أو السكون، أو الفناء والعدم، وستبقى حتى تحقق الأهداف الموعودة، وتصل إلى الغايات المرسومة.