قمنا في المقال السابق بالحديث عن الممارسة الجنسية كحاجة إنسانية أساسية وما يترتب على عدم ضبطها من مشاكل وأمراض اجتماعية ونفسية، كما قمنا بالحديث عن الزواج كمؤسسة اجتماعية تقوم بضبط الممارسة الجنسية وربط أواصر المجتمع ببعضها البعض، واستكمالًا لهذا الجهد نقوم في هذا المقال بمحاولة لإدراك أبعاد ثنائية الزواج والطلاق كرابطة شخصية بين أفراده، وكرابطة اجتماعية تعني بتخزين القيمة والثروة الاجتماعية والمادية.
ربما تمثل منظومة الزواج القانوني أو المدني كما نعرفها حاليًا منطلقًا جيدًا، إلا أنها لا تخلو من الإشكاليات والاختلاف من مكان لآخر في ذات الوقت، إذ غالبًا ما ترتبط منظومة الزواج القانوني في أغلب البلاد العربية والإسلامية بتشريعات تعتمد بشكل أساسي على مدرسة فقهية في الأمر، إلا أنها تدع مجال للزواج المدني الذي قد لا تسمح به المدارس الفقهية في نهاية الأمر، وذلك لطبيعة الدولة الحديثة العلمانية ولطبيعة سكان هذه الدولة التي تشمل أناس من ديانات وأفكار مختلفة.
إلا أن على الرغم من الخلفية الشرعية لهذا الرباط، فإنه يظل رباطًا قانونيًا يحكم علاقة الأفراد أمام قانون واحد مثبت ويسمح بترتيب المصالح والالتزامات بشكل ثابت ومتفق عليه.
إلا أن هذه البداية تحتم نظرة تاريخية استقصائية سريعة على أصل الزواج في المنظومة القانونية في مقابل المنظومة الشرعية، فالنظر سريعًا إلى واقع الدولة العربية الحديثة يكشف التأزم المستمر في علاقتها بالمجتمعات التي لا تشاركها الكثير من التاريخ والأفكار، فأغلب المنظومات القانونية الحالية في الوطن العربي يمكن تتبعها إلى الجهود الاستعمارية في تحديث المجتمعات العربية المستعمرة، فالمنظومة القانونية المصرية الحالية مثلًا ما زالت جزءًا لا يتجزأ من التراث القانوني الفرنسي، وذلك نتيجة للجهود الفرنسية أثناء حملة 1797، وما تبع ذلك من توجه أغلب محدثي الدولة المصرية نحو القبلة القانونية الفرنسية بالبعثات أو استجلاب الخبراء.
تطور مفهوم الزواج في التراث القانوني الفرنسي يرتبط عضويًا بالتاريخ الفرنسي، فكون فرنسا بلدًا كاثوليكيًا تاريخيًا قبل الثورة الفرنسية وعملية علمنة الدولة يظل محوريًا في الفهم الفرنسي لمنظومة الزواج، وهنا يمكن إلقاء نظرة سريعة على المفهوم الكاثوليكي للزواج، فمفهوم الزواج في الكاثوليكية شديد المحورية والفرادة، ويبقى له أثرًا شديد الخصوصية على الأحوال المدنية حول العالم.
يوصف الزواج في الكاثوليكية بالرباط المقدس، أي أنه رباط قد حدده الإله في القدر ولا يحق للإنسان أن يغيره، ولهذا السبب كان ويظل للتأكيد على تراضي الطرفين قبل الزواج أهمية شديدة نظرًا لاستحالة نقد هذا الرباط لاحقًا سوى بالموت، ويمكن بأخذ هذا في الاعتبار أن نفكر في القيمة الاجتماعية التي يصبح هذا الزواج محملًا بها في هذه الحالة، إذ إن الاعتبارات الاجتماعية في الزواج كحفظ الثروة الشخصية مثلًا تصبح شديدة الأهمية إذا أصبحت إمكانية الفصل بين الزوجين مستحيلة، ومثل هذا الزواج يتطلب حكمًا مسبقًا عليه بالنجاح، لأن حالة فشله تعني تفسخًا بين فردين لا يمكن الفصل بينهما من دون إنهاء الحياة الاجتماعية للفردين، ففي حالة الانفصال بينهما بشكل أو بآخر يصبح الزواج مرة أخرى لأي من الطرفين عملية مستحيلة، وتصبح عضوية كل منهما في المجتمع ناقصة نتيجة الخروج عن قواعده الراسخة.
لعبت هذه الرؤية دورًا كبيرًا في تشكيل تشريعات الزواج القانونية في الدول الأوروبية الحديثة، سواء بالسلب أو الإيجاب، فنرى مثلًا أن الطلاق لم يكن ممكنًا سوى عبر رفض الدولة لقاعدة محورية من قواعد الإيمان الكاثوليكي، ولا شك أن هذا الرفض وإن أصبح ممكنًا من الناحية العملية إلا أنه لم يغير من الرؤية الغربية للزواج كخطوة محورية وشديدة الخطورة في حياة الأفراد، وتبقى هذه الرؤية شديدة التأثير في الواقع بالرغم من الابتعاد الغربي المتسارع عن التمسك بالإيمان المسيحي.
فبالرغم من أن العلاقات العاطفية والممارسة الجنسية خارج الزواج أصبحت هي النمط المقبول اجتماعيًا، إلا أن الزواج ظل يحمل وصمة الأبدية وعدم قبول احتمالية الفشل (بغض النظر عما يحدث في الواقع).
بهذا الشكل يصبح تطبع منظومة الزواج الإسلامية بذات الوصمة شديد الغرابة، فعلى الرغم من أن أغلب قوانين الأحوال المدنية يحكمها التشريع الإسلامي، إلا أننا نرى أن منظومة الزواج في البلاد الإسلامية تتسم بقدر كبير من الكاثوليكية والرغبة في الأبدية.
نظرة سريعة على التراث النبوي وتاريخ الإسلام القديم وحتى النصوص الدينية الإسلامية ترسم صورة مختلفة تمامًا عن واقع المنظومة الحالي، إذ نرى أن منظومة الزواج كانت تتسم بقدر كبير جدًا من الليونة الناتجة من رؤية الزواج كعقد لا كرباط مقدس، فالزواج وفقًا للرؤية الإسلامية يتصف بكونه اتفاق بين بشر يتم الاتفاق على شروطه بالتراضي، فالشرع الإسلامي يحدد مجموعة من الصفات لهذا العقد وغير ذلك فهو يبقى وفقًا للتراضي بين الطرفين.
وتفرض الطبيعة البشرية لهذا العقد بالضرورة إمكانية التراجع عنه أو فسخه في أي وقت وفقًا للشروط المتفق عليها، فنرى أن الزوجين فد يتفقا مثلًا على حق الزوجة في تطليق زوجها بالاتفاق على أن تصبح العصمة في يدها، أو أن تتفق الزوجة مع زوجها في عدم الزواج من أخريات على طول زواجهما.
وبالتالي فإن الطبيعة العقدية أو الاتفاقية لهذا الزواج تفرض حالة من التعامل معه كاتفاق إنساني لا ينبني على إنهائه أو تغييره وصمة اجتماعية، فكنا نرى أن الزواج كان يتم التعامل معه في عصر النبوة على كونه اتفاق يتوازى مع حياة الفرد، لا خطوة تتقاطع معها وتصبح الحياة بعدها غير قبلها، فهو بهذا الشكل اتفاق يجعل الممارسة الجنسية عملية مرتبة وشرعية يعترف بها المجتمع، ويضمن الحفاظ على شكل الأسرة كوحدة اجتماعية عبر حفظ النسب وإعلانه.
بالنظر إلى الواقع الاجتماعي الحالي لمنظومة الزواج في البلاد العربية نجد أن الوضع يختلف عن الترتيب الإسلامي بشكل كبير، فالطبيعة الإنسانية لعقد الزواج تم التضحية بها اجتماعيًا لصالح منظومة لحفظ وتركيز أكبر قدر ممكن من الأموال والوجاهة الاجتماعية؛ فعقد الزواج لم يعد عقدًا بين طرفين يرتضي كل منهما أن يهب للآخر وده وجسده، وإنما أصبح عقد طرفاه هما الزوجين من جهة والمجتمع من جهة أخرى، تلبس المجتمع لباس الأب الكاثوليكي الذي لا يتم الزواج بدون رضاه ولا يقبل بالطلاق من الأساس، وعليه أصبح من الطبيعي جدًا أن يقوم المجتمع بوسم الطرف المخالف لأبدية هذا الزواج (الزوجين) بشكل شديد القسوة، والمتضرر الأكبر من هذا الوسم بطبيعة الحال هو الطرف الأضعف متمثلًا بالأنثى.
هل تستطيع الأنثى المطلقة أن تتزوج بذات السهولة التي يمكن أن تتزوج بها الفتاة العذراء؟ بالطبع لا؛ فالقيمة التي يضعها المجتمع على الفتاة العذراء أكبر بكثير، فهي كأداة لمتعة الرجل لم تستخدم من قبل.
وهل يرضى والد أي فتاة لم تتزوج أن يزوج ابنته لرجل سبق له الطلاق مرتين بسهولة؟ بالطبع لا؛ فهذا الرجل يعد إهدار لقيمة الفتاة التي يمكن استثمارها في زيجة ذات قيمة اجتماعية ومادية أكبر من رجل لم يسبق له الزواج.
هذه الحالة هي تحديدًا ما تحدثنا عنه في المقال السابق من تفريغ عملية الزواج من قيمتها الإجرائية تعمل على تسهيل الحياة البشرية وضمان الحركة والتجدد الاجتماعي، وتحويلها إلى منظومة لاختزان القيمة وثبات الوضع الاجتماعي على ما به من أمراض وخلل، أو وسيلة لضمان إعادة إنتاج المجتمع لذاته.