لقد كانت العمليات العسكرية التي قامت بها روسيا في الأراضي السورية تهدف بشكل أساسي إلى رصد رد فعل الناتو وإستراتيجيته الدفاعية ولقد تحدثنا عن نتيجة السياسات الخاطئة التي يقوم بها الناتو في مقالات سابقة.
إن البُعد العالمي للقضية هو أكبر بكثير من البُعد الإقليمي لها، وبالتأكيد فإن هذا القصور لا يعني أن روسيا لم تهدف إلى تغيير الوضع في سوريا ولكن إذا أهملنا مسألة أن سوريا أصبحت مسرحًا لاجتماع القوة العالمية وحللنا المسألة بإهمال هذا الجانب فإننا نكون قد أخطأنا.
لا بد وأن التوقيت الذي اختارته روسيا للتدخل في الأراضي السورية كان له معنى مدروس، فعملية ضرب القوات الروسية لقواعد داعش والمعارضة السورية في نفس الوقت، وإطلاقها للصواريخ من بحر قزوين وغيرها من المداخلات العسكرية يدل على أن نظام حكم الأسد قد وصل إلى مرحلة مهمة من الضعف، وقد جاءت هذه المداخلة في الوقت الذي أعلن فيه نظام حكم الأسد وبشكل صريح أنه يجد صعوبة في إيجاد عناصر عسكرية تقاتل في صفه، بالإضافة إلى أن المعارضة أصبحت على وعي تام بوجود عساكر حزب الله والعساكر الإيرانية في الساحة أمامهم؛ لذلك فإن التدخل الروسي وغيره جاء في الفترة التي أصبح فيها نظام الحكم بحاجة جدية إلى دعم من الخارج وهذا أدى إلى فتح الطريق أمام روسيا لإحكام نفوذها في الساحة السورية.
ومن طرف آخر فإن ملاحظة روسيا للحرب الداخلية الضارمة في سوريا وما سينتج عنها من تفكك للقوى وانشطارات عديدة داخل البلاد أدى إلى دفعها إلى تقوية تمركزها في سوريا لحماية وترسيخ سيطرتها في المنطقة في حال أصبح أمر تقسيم سوريا أمرًا واقعيًا، بالإضافة لايقان روسيا بأن ما يحدث في المنطقة لا يقتصر على سوريا بل إنه سيؤثر على كل من الدول المجاورة كالعراق ولبنان، الأمر الذي قد يؤدي إلى حروب داخلية وانقسامات في هذه البلاد.
إن توطيد روسيا لوجودها في سوريا سيدعم تأثيرها في كافة القضايا في المنطقة، ويمكننا القول إن هدف روسيا الأساسي من هذه التحركات هو محاولة خلق توازن بين سيطرتها ونفوذها بنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، ويبدو أنه قد حققت فعلًا جزءًا كبيرًا من هذه الغاية في الوقت الحاضر، ولكن ما فائدة تدعيم روسيا لوجودها في المنطقة على السياسة العالمية بشكل عام؟
لعل أهم نقطة في هذا الموضوع والتي يجب الوقوف عليها هي قضية تأمين روسيا للطاقة والوقود المستقبلي، فمن المعروف أن روسيا وبوتين ومنذ سنوات الـ 2000 قد عملت على جعل شركات الطاقة في البلاد شركات حكومية وربط هذه السياسة وجعلها متناسقة مع السياسة الخارجية وبذلك حاولت أن تحتل موقعًا مهمًا في السياسة والاقتصاد بين الأمم، ولهذا فإن نجاح روسيا في هذا الأمر قد عزز في مكانتها بين الدول الغربية ودول الاتحاد الأوروبي التي تسعى لكونها دول مزودة للطاقة.
روسيا التي تعمل على المحافظة على موقعها هذا تعرف أن جهود الدول الأوروبية لتنويع وتعديد مصادر الطاقة لديها ستؤدي إلى تعرض عدد من مشاريع الدول المسيطرة على المصادر التقليدية للنفط للفشل في بسط نفوذها، وبما أن روسيا في الآونة الأخيرة قامت بإنشاء أجهزة دولية وعملت على التعريف بجغرافيتها وتحريك عجلات اقتصادها معتمدة بشكل أساسي على مصادر الطاقة لديها التي تزود بها الدول الأخرى، وبهذا فإن حدوث نقص في طلب طاقة روسيا من الخارج قد يؤدي إلى إيقاف مشاريع روسيا وجعل عجلتها الاقتصادية تتوقف.
إن مشاريع الاتحاد الأوروبي وبمشاركة من الولايات المتحدة في التشجيع على البحث عن مصادر البترول والغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض وبيعها لدول العالم يجعل روسيا تأخذ بعين الاعتبار السيناريو الذي تحدثنا عنه، روسيا التي قطعت مسافة جدية في التقدم الصناعي بعد انتهاء الحرب الباردة ونجاحها في رفع طلبها على النفط محققة نجاحًا في التصديرات العالمية في عدد من المجالات تعرف أن استثناءها من حصة البترول الموجودة في منطقة شرق البحر الأبيض قد يولد مخاطر كبيرة لها.
وبهذا فإن قيام روسيا بالتدخل العسكري في سوريا وتأثيره على السياسة العالمية يمكن النظر إليه من هذه الزاوية.
روسيا لم يسبق لها أن تدخلت في شؤون سوريا بشكل مباشر إلى هذا الحد من قبل، ولكن الأهداف الإستراتيجية لإيران وحزب الله عملت على تحفيز تدخلها بشكل كبير، وهذا يعني أن ادعاءات إيران “بحمايتها للحدود الإسلامية وسعيها لمنع الحركة الصهيونية” هي ادعاءات لم يعد لها أي قدسية في الساحة الدولية، وأن الجميع يعمل من أجل بسط نفوذه وتدعيم أهدافه الإستراتيجية، بالرغم من أن الجميع يشهد قتل الأطفال ويسمع آهات الملايين من المظلومين المسلمين دون أن يأخذها بالحسبان.
نُشر المقال لأول مرة في عربي 21