رُشح فيلم ما بين النجوم أو إنترستلر، آخر أعمال كريستوفر نولان (ثلاثية فارس الظلام، ميمنتو، إنسبشن…) لأربع جوائز أوسكار، ثلاث منها تتعلق بالصوت وواحدة بخصوص التصميم، وفاز بأوسكار المؤثرات البصرية، وقد لاقى ذلك استهجان الكثيرين ممن اعتبروا الفيلم تحفة تاريخية ستؤثر في مستقبل السينما، بل ذهب البعض إلى مقارنته بأوديسا الفضاء، 2001 لكيوبرك (وهي مقاربة نسبت للمخرج نفسه).
في هذا المقال لن نخوض في مدى أحقية الفيلم بجوائز الأوسكار، ولن نذهب في قراءة نقدية له، لكننا سنخوض في سيناريو الفيلم الذي اعتبره البعض معقدًا أو شائكًا أو يحتاج إلى الكثير لفهمه، وسنستعرض عشرة أخطاء مهمة لا تليق بفيلم خيال علمي على أعلى مستوى.
1- في عالم موبوء بترابه، في عالم يعاني من وباء يهلك الزرع والضرع “لقد مات القمح، جاءت الآفة وكان علينا حرقها، لا يزال هناك الذرة، هناك فدادين من الذرة، لكن… على الأخص هناك الغبار”، يجب أن نفترض شكلاً اجتماعيًا آخر للعالم، يجب أن نتصور تركيبة مختلفة للسكان، وهيكلة جديدة للدولة، إن العالم يتشكل فعلاً وفق ما يحدث فيه، وليس بمعزل عن أبسط ما يطرأ عليه، فما بالك بآفة تغمر العالم بهذا الشكل؟ لكن نولان يصور لنا عالمًا لا يختلف كثيرًا عن عالمنا؛ هناك المدرسة، وهناك الأطباء، طرق امتلاك الأرض، وسائل الإنتاج، الدولة وممثلوها، وغير ذلك.
إن أبسط ما يمكن أن يحدث لمثل هذا العالم، هو اهتمامه بعلوم الأرض إلى حد غير مسبوق، هو تطور البيولوجيا والهندسة الوراثية والمعمار بحيث يستطيع الناس مجابهة عالم من الغبار والأوبئة، إن الإجابة الأولى للكارثة هي محاولة إصلاح الأرض، لا تركه، يهمس لي صديق ما، بأن نولان ذكر في الفيلم أن محاولات البشر باءت بالفشل، وأن فكرة نولان أصلاً تقضي بأن الحل يكمن في الخروج، فأجيبه أن المحاولات التي تبوء بالفشل لا تختفي آثارها فجأة، لو أن العالم حاول، لرأينا منازل تحتوي على الميكانيزمات اللازمة لمنع دخول الغبار، ولرأينا آثار نتائج الهندسة الوراثية على الطعام (لا يزال الأكل هو ذلك الذي نعرفه)، ولرأينا قدرة الناس على مجابهة مشاكل التنفس من دون الحاجة إلى الذهاب إلى الأطباء، كأنه مرض مفاجئ، لرأينا الناس تتعامل معه كأنه زكام، لكننا لم نر كل ذلك، لأن نولان لم يُلزم نفسه بهذه الرؤية، التي يُفترض أن تكون تمشيًا منطقيًا لفكرته عن نهاية العالم والتي ربما أرادها مبتكرة.
إن إصرار نولان على هذه الفكرة يجعلني أتساءل: ألم يكن أفضل أن يقدم لنا نهاية العالم في شكل كلاسيكي أكثر؟ الجرم الذي سيصيب الأرض؟ الاختلال في أفلاك كواكب المجموعة الشمسية؟ لماذا بحث عن شيء شائك في حين أنه لم يكن المشكل الأساسي الذي يدور حوله سيناريو الفيلم؟ ربما ليعيدنا إلى ذلك السؤال الذي يتهامس به الخلق والأمريكيون خصوصًا حول أنشطة ناسا: ما الفائدة من كل هذه الأموال التي تضخ لناسا؟ ألم يكن أجدى أن تضخ من أجل محاربة الفقر والمجاعة؟ سنجد في الفيلم عناصر كثيرة تفيد دفاع نولان عن وكالة الفضاء الأمريكية، حتى كأن الفيلم نوع من الإشهار الراقي لأنشطتها (راجع لقاء البطل مع إدارة المدرسة ودفاعه عن ارتياد أرمسترونغ للقمر). “ناسا تقدم لكم عملاً جادًا وسوف تقود يومًا البشر نحو رحلتهم الأسطورية، حاجة الإنسان إلى ناسا أصبحت أكثر ضرورة من حاجتهم إلى المزارعين”، هكذا يحدثنا نولان، ولكن حديثه كان يفتقر إلى بعض الدقة والعقلانية التي يفرضها الخيال العلمي، خصوصًا من مخرج امتهن الدقة العلمية والعقلانية في أفلامه.
2ـ جاء الفيلم مهتمًا كثيرًا بدقة تطبيق النظريات العلمية، خصوصًا مع بحوث كيم ثورن الفيزيائية التي ساعدت نولان على تقديم تصورات متميزة للثقب الدودي والثقب الأسود وخط الأفق والمنفردة، وغيرها، لكنه في الآن نفسه بدا شديد التخاذل مع باقي نقاط السيناريو، فتعامل ببساطة منفرة مع ما يفترض أن يكون الناسا، حيث يظهر لنا الدكتور مان “مايكل كاين” كأنه إمبراطور يأمر وينهي، ويخفي معلومات وأسرار، يقرر كاين من وراء الدولة أن إنقاذ البشرية لا يمكن إلا بإقامة مستوطنة جديدة على كوكب جديد، ويقرر كذلك أعضاء المستوطنة الجديدة: امرأة (هي ابنته) وثلاثة رجال.
يبدو أنه لم يفكر بإحداث بعض التوازن في تشكيلة المستوطنة الجديدة، لكن هذا لا يهم، ما يهم هو أن أحدًا لم يراجع معادلات الدكتور مان، الولايات المتحدة كلها بكامل تنظيماتها وهياكلها، لم تراجع النظرية، لم تشترك مع الدكتور مان في مراجعة قرار الرحلة، لا يبدو أن هناك مراقبة من أي نوع لما يحدث فيما يبدو أنه أخطر برنامج على كوكب الأرض، ربما كان برنامج صغير للتجسس يكفي ليتهافت كبار رجال الدولة على رحلة النجاة الوحيدة هذه، لكن نولان آثر التبسيط ربما إلى حد الابتذال في هذا الخصوص.
3ـ الابتذال المتعلق بناسا يبدأ منذ تعرف الدكتور كوبر “ماكونوهي” وابنته على مكانها، تخيلوا أن المنظمة الأكثر سرية في العالم، تلك المنظمة التي تحاول الاختفاء تمامًا عن أنظار دافعي الضرائب، توجد في مكان يمكن بلوغه بالسيارة، صحيح أن كوبر وابنته كانا يملكان الإحداثيات، لكنهما لم يقطعا الصحاري لبلوغ المكان، ولم يبد أنه منطقة عسكرية محرمة، كان مكانًا يمكن لأي شخص العثور عليه ولو مصادفة، لقد كان نولان مجبرًا على فعل ذلك حتى يتماشى مع فكرة التواصل مع الماضي بواسطة الجاذبية، ربما كان عليه تخيل شيء أكثر تعقيدًا.
4ـ داخل ناسا تبدو التركيبة غريبة وشديدة التبسيط، هناك عالم فلك وفيزياء وإداري أو مدير يفعل كل شيء بمفرده، أتساءل ما الحاجة لكل أولئك المحتشدين هناك، الدكتور مان يقضي كل ساعاته في نظريته، ويقضي كذلك كل ساعاته في إدارة الناسا: إمضاء الأوراق الرسمية، تقديم التقارير للدولة، ربما إقناعهم المستمر بأهمية بقاء الدعم، توجيه سياسات المنظمة، وتقرير طواقم الرحلات الفضائية، هذه مستويات كثيرة يمارسها الرجل بطريقة تذكرنا بأفلام الكرتون، ألم يكن من الأفضل لو كان الدكتور مان، مجرد عالم مكلف بالإشراف العلمي على الرحلة أو شيء كهذا؟
5ـ مادمنا نتحدث عن الرحلة بين النجوم، يجب أن نتوقف طويلاً عند تعامل الناسا الاحترافي معها: رحلة مصيرية تم الاعداد لها بدقة وتحضير الرواد وطبيعة المهمة والموارد التقنية والبشرية الهائلة، لا ينقصهم إلا أمر واحد: قائد للرحلة له معرفة بفيزياء الكم وخبرة بالفضاء ومهارة في الطيران والهندسة، هذا رجل لا وجود له في سجلات ناسا، لكن تقوده المصادفة (في الواقع لم تكن مصادفة كما سنكتشف فيما بعد، لكن بالنسبة للناسا في ذلك التوقيت، ليس لهم علم بأي شيء، وبالنسبة لهم يعتبر قدوم كوبر إليهم أشبه بالمصادفة) إليهم، مرحبًا نحن الناسا، نعلم أنك لا تعلم أننا لا نزال هنا، أنت تجيد القيادة أليس كذلك؟ ما رأيك لو تذهب في رحلة إلى ما وراء النجوم؟ أوكي يا رجل!
6ـ يتواصل الارتجال المذهل لناسا أثناء الرحلة، هكذا تخرج المركبة التاريخية إلى مصيرها بقيادة رجل لا يعرف بعد معنى الثقب الدودي الذي يفترض أنه سيدخل فيه، قبيل ثلاث ساعات، من رحلة استمرت أشهرًا، يجلس كوبر إلى رفيقيه ليشرحا له الثقب الدودي باستعمال ورقة وقلم، الحقيقة أنني أخطط ليومي بشكل أكثر احترافية من ناسا بكثير.
7ـ الدخول للثقب الدودي مسألة بسيطة، لكن الدخول للثقب الأسود مسألة تبدو أكثر بساطة بالنسبة لكوبر الفذ، بعضهم يقول إنه لم يدخل إلى الثقب الأسود، بعضهم يقول إنهم “هم” الذين بواسطة قدراتهم الهائلة ذهبوا به إلى منطقة التسراكت (مكعب خماسي الأبعاد) لكن هذا ليس مهمًا، ما يهم هو كيف يمكنه الاقتراب أصلاً من الثقب الأسود دون أن يقضيَ عليه الضغط الرهيب الذي لا يتحمله الضوء نفسه؟ لنفترض فحسب أنه الجزء الخيالي من “الخيال العلمي” في الفيلم.
8ـ عاد كوبر من رحلته الملحمية الأسطورية، ليرى ابنته وقد غدت عجوزًا، يجب التذكير هنا بأن علاقة كوبر وابنته خاصة جدًا منذ البداية، وكانت من أهم عناصر الفيلم، مع ذلك، استمر لقاء الرجل و ابنته دقيقتين تمامًا، وسط نظرات أحفاده المستغربة، لا أحد ينتابه الفضول بشأن جد جاءهم من أعماق الماضي، أما هو، فدقيقتان من الوقت مع ابنته التي لم يرها منذ سنين كافيتان، الأهم هو عدم إضاعة المزيد واللحاق بالدكتور براند… الرجال!
9ـ هناك مشاكل كثيرة يبدو أنها تحدث حينما نسافر ما وراء النجوم، ليس من بينها حتمًا الإرساليات، تستمر الرسائل الصوتية والمرئية في الهطول بشكل يجعلنا نتساءل عن شركة البريد أو شركة الاتصالات التي تؤمن ذلك! هناك نظرية تتحدث عن إمكانية نسخ الذرة بحيث مهما يكن مكانهما في الكون، أي تغيير يحصل للأولى، يحصل للثانية في الآن ذاته، لكن هذه النظرية لا تفسر بلوغ الرسائل بصفة متأخرة عن وقت إرسالها، ولا تفسر عدم وجود طريقة للرد على الرسائل؛ ما يعني أن الوسيلة المستعملة كلاسيكية، تفترض حاملاً كونيًا مثل الضوء، وهو الذي يجد مشاكل جمة في مقاومة الثقوب السوداء، هل قلت الجاذبية؟ لو أن لهم القدرة على الإرسال بواسطة الجاذبية، لما احتاج كوبر للدخول إلى منطقة التسراكت لفعل ذلك، مرة أخرى سنقول، هذا هو الجانب الخيالي في “الخيال العلمي”.
10ـ في نهاية الفيلم، وكعادة الأفلام الأمريكية، تتحول المركبات الفضائية إلى نوع من سيارات الأجرة، تدخل إلى المستودع، لا رقيب ولا نذير، تأخذ حاجتك، لا داعي للتعقيدات فيمكنك قيادتها بنفسك، فقط ضع رخصة السياقة الفضائية في سقف المركبة ولا تنس التأمين، وتوكل على الله إلى حيث الدكتور براند.
لقد اهتم نولان كثيرًا بالجانب الصوتي والبصري في الفيلم، وقدم بالاستعانة بفنانين عظام على رأسهم الرائع هانس تسيمر Hans Zimmer، أجمل اللوحات الفنية على هذين المستويين، لكن اهتمامه بالجانب الدرامي كان ضعيفًا إلى حد غير مسبوق، علاقة الأب بابنته من خلال كوبر وكذلك الدكتور مان، علاقة البشر بكوكب الأرض، علاقة الإنسان بالكون، علاقة الإنسان بالزمن، كل ذلك كان هشًا ولا يتسم طرحه بالجدية الكافية، وما نال الفيلم بشأنه كل هذه الشعبية، هو تعامله الجاد مع النظريات الفيزيائية، ما عقد السيناريو وجعله صعب المنال على الكثيرين، في هذا المقال، أبدينا كيف أن النظريات الفيزيائية ليست كل شيء في قصص الخيال العلمي، وأنه بقدر ما يجدر بالكاتب أو المخرج الاهتمام بالجانب العلمي، بقدر ما يجدر به الاهتمام بالجانب الخيالي أيضًا (ولا نعني هنا العجائبي).
اسم الفيلم: Interstellar
السنة: 2014
المخرج : Christopher Nolan
البطولة: Matthew McConaughey, Anne Hathaway, Jessica Chastain
مدة العرض: 169 دقيقة.