بينما يزداد حضور الروس بعملياتهم العسكرية في أوكرانيا وسوريا واستحواذهم فعليًا على شبه جزيرة القرم، لا يبدو أن الأمريكيين قلقين من تحركاتهم على الأرض في أوروبا والشرق الأوسط بقدر ما هم قلقين من مسارات سفنهم في البحر، حيث تنشط بشكل كثيف بالقرب من أماكن الكابلات الموجودة تحت الماء، والتي تحمل تقريبًا كافة اتصالات الإنترنت العالمية (انظر الخارطة التفصيلية والتفاعلية لكافة الكابلات هنا)، وهو ما دفع بعض المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين في الولايات المتحدة للتعبير عن قلقهم من وجود مخططات روسية لمهاجمة تلك الخطوط في المستقبل إذا ما نشب صراع موسّع أو تصاعد التوتر بين واشنطن وموسكو.
يتجاوز هذا الخطر في الحقيقة ما كان يمكن أن يحدث أثناء الحرب الباردة، والتي شهدت قلق وكالات الاستخبارات الأمريكية من تجسس الروس على الكابلات فقط ليس إلا، أما الآن فالروس قد يقطعون بالفعل الألياف البصرية المستخدمة للاتصالات العالمية، وفي أماكن حساسة قد تعطل التواصل المباشر الذي تعتمد عليه الحكومات وكافة اقتصاداتها وشركاتها ومواطنيها، وتتم عبرها عمليات تصل قيمتها لعشرة تريليون دولار يوميًا علاوة على 95% من الاتصالات، ورُغم أنه ليس ثمة دليل حتى الآن على أي خطط لقطع الكابلات، فإن التحركات البحرية الروسية المتزايدة مؤخرًا مع وجود نظام مُغلق بشكل كبير في موسكو يعني أن الاحتمال قائم من وجهة نظر الأمريكيين.
“أشعر بالقلق يوميًا بشأن ما يمكن أن يفعله الروس،” هكذا قال الأدميرال فريدريك روج، قائد أسطول الغواصات بالقوات البحرية في المحيط الهادي، والذي لم يفصح عن أية مخططات محتملة للروس لقطع الألياف البصرية نظرًا لسرية معظم ما تقوم به وزارة الدفاع (البتناجون) ووكالات الاستخبارات الأرميكية، والتي تقوم بالطبع بشكل مستمر برصد وتقييم تحركات ونشاطات روسيا البحرية، وتصنفها طبقًا لخطورتها، ثم تعمل على وضع خطط للإصلاح السريع لأي كابلات يتم قطعها، دون أن تنشر أية معلومات عن جهودها تلك للعامة.
في الغُرَف المغلقة بطبيعة الحال، تتسم حوارات المسؤولين والقادة بكونها أكثر صراحة، حيث ورد أنهم يرصدون تزايدًا في النشاط الروسي بطول خطوط الكابلات المعروفة من بحال الشمال إلى شمالي شرقي آسيا وبشكل أقرب للشواطئ الأمريكية، على سبيل المثال، قامت سفينة التجسس الروسية يَنتار Yantar الشهر الماضي بالمرور بهدوء قبالة الساحل الشرقي للولايات المتحدة في طريقها إلى كوبا حيث تقع مجموعة كابلات رئيسية بالقرب من قاعدة جونتانامو البحرية الأمريكية، وهو مرور رصدته الأقمار الصناعية والطائرات والسفن الأمريكية، هذا وقال مسؤولون بحريون أن السفينة المزودة بمركبتين ذاتيتي الدفع، وقادرتين على الغوص لأعماق كبيرة، يمكن لها نظريًا أن تقطع الكابلات الموجودة في قاع البحر.
صورة السفينة يَنتار وموقع مرورها بالأحمر على الخريطة قُرب ولاية فلوريدا إلى غربها وقاعدة جوانتانامو إلى جنوبها
“هذا المستوى من التحرك يماثل ما كان يحدث أثناء الحرب الباردة،” هكذا قال دبلوماسي أوروبي مرموق معربًا عن قلقه، وهو قلق ينتشر بطول القارة الأوروبية وعرضها نتيجة الأحداث الجارية في أوكرانيا وسوريا، وقد دفع ذلك النرويج، أحد أعضاء حلف الناتو، لطلب المساعدة في رصد الغواصات الروسية التي تتحرك في المياه الدولية القريبة منها، لا سيما وأنها تشارك روسيا حدودًا برية في أقصى الشمال الشرقي، كما تستطيع بحرية روسيا الوصول لها عبر بحر البلطيق من جنوبها أوالبحر النرويجي من شمالها (انظر موقع النرويج هنا.)
“المشكلة الرئيسية هنا هي أن أي جهة يمكن أن تُلحق الضرر بمنظومة الكابلات تلك بطريقة غير مباشرة، دون سفن حربية أو أجهزة قاطعة للكابلات،” هكذا قال مايكل سِكريست، مدير المشروعات السابق لدى هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي ساهم في برنامج ممول من وزارة الدفاع الأمريكية في وقت سابق وأجرى دراسات تقييم مخاطر لأمن الكابلات منذ ثلاثة أعوام، مشيرًا إلى أن الكابلات تتعرض للقطع كثيرًا نتيجة كارثة طبيعية أو مرساة لسفينة خرجت عن السيطرة، ولكن معظم تلك الحوادث تتم قرب الشواطئ، ويمكن إصلاحها في غضون أيام.
أما ما يُقلق البنتاجون فهو ما يبدو أن الروس يدرسونه، وهو البحث عن نقاط ضعف بعيدة عن الشاطئ وبعُمق كبير لإحداث الضرر، حيث يصعب الرصد بشكل مستمر، كما تصبح مهمة إيجاد وإصلاح الأعطاب شديدة الصعوبة، وهو أمر خطير بالنظر لكون مواقع الكابلات معروفة لمعظم الناس عبر خرائط متاحة على الإنترنت، “الكابلات تحت الماء تتبع نفس المسارات التي وُضِعَت فيها منذ ستينيات القرن التاسع عشر،” هكذا يقول سِكريست، وذلك لأن مشغلي الكابلات يريدونها راسخة في مواقع متعارف عليها تخضع لاتفاقيات طويلة المدى، وبالتالي تصبح أوضاعها مستقرة، ويُتاح بناء قواعد مخصصة لحمايتها والإشراف عليها بالقرب منها.
الاستثناء الوحيد هنا هو كابلات خاصة وضعتها الولايات المتحدة للعمليات العسكرية الخاصة بها، وهي لا تظهر في أية خرائط متاحة لكابلات الاتصالات على الإنترنت نظرًا لسريتها، ويرجح المسؤولون الأمريكيون أن تكون تحركات الروس جزئيًا للبحث عنها في مواقع مختلفة بالمياه الدولية، لا سيما وأن إيقاع الضرر بكابلات عالمية يعتمد عليها الاقتصاد العالمي سيجلب لروسيا عداوات شديدة، أبرزها من الصين وأوروبا الواقعتين في القلب من ذلك الاقتصاد، في حين سيكون استهداف الأمريكيين فقط مسألة أكثر محدودية في أثرها على غير الأمريكيين، خاصة وأنها تتعلق بعمليات عسكرية لا مالية تربط أمريكا بغيرها.
***
بينما يعتقد كثيرون أن استفزازات الروس في سوريا أو أوكرانيا كفيلة بجر الأمريكيين لاحتكاك عسكري معهم على أقل تقدير، لا يبدو أن البنتاجون ينتوي خوض أية مخاطرات في شرق أوروبا والشرق الأوسط في الوقت الحالي، في حين تنصب أنظاره في الواقع تجاه حركات الغواصات الروسية قرب الكابلات العالمية، والتي قد يكون احتكاك القوتين العسكريتين بسببها أمرًا أكثر احتمالًا في المستقبل، لا سيما وأن الكابلات الموجودة تحت الماء تصنف على رأس قائمة “البنى التحتية الحساسة” الواجبة حمايتها عسكريًا من جانب وزارة الأمن القومي الأمريكية.
الزيادة التي شهدتها دوريات الغواصات الروسية حول العالم، وبلغت نسبة 50% خلال العام الماضي كما صرح هذا الشهر الأدميرال فرجسون المسؤول عن القوات البحرية الأمريكية في أوروبا، هي زيادة لم يشهدها العالم منذ أكثر من عقد، وهي مرشحة للتزايد أكثر بالنظر لاهتمام الروس بتعزيز نفوذهم البحري دوليًا كما تشي بذلك القواعد التي يقيمونها في القطب الشمالي، واستثمارات توسيع أسطول البحر الأسود البالغة قيمتها 2.4 مليار دولار، والعمل على بناء مركبات بدون قبطان تحت الماء يمكن لها حمل رؤوس نووية تكتيكية صغيرة كما يؤكد المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون الأمريكيون.
كل تلك التعزيزات لا يبدو أنها لحماية روسيا نفسها بقدر توسيع نطاق نفوذها ليتيح لها التأثير على طرق نقل الطاقة والاتصالات وحركة التجارة العالمية، وذلك بينما تشهد روسيا نفسها تراجعًا اقتصاديًا وربما ديمغرافيًا أيضًا، وهو ما يعني أن النظام في موسكو يحاول تعزيز قوته مهما افتقد من عوامل القوة العظمى الموجودة في الصين والولايات المتحدة، وهي إشكالية ربما تشرح كونه حاليًا القوة الأكثر مجازفة في اتخاذ قرارات التحرك العسكرية، والأكثر عدوانية ربما، مستغلًا في ذلك رغبة الولايات المتحدة في التهدئة بعد عقد بوش المرتكز للحروب، غير أن التهدئة الأمريكية في الأقاليم البعيدة بينما ينتهي عصر الهوس بالجيوسياسة إلى شرق الأطلنطي، لا تعني التغاضي عن المساس بعصب السوق العالمية التي لا تزال في القلب من القوة الأمريكية.