شكلت علاقة المملكة العربية السعودية بما لها من نفوذ في منطقة الشرق الأوسط بالجماعات الإسلامية على اختلاف تصنيفاتها لا سيما السياسية منها لغزًا كبيرًا، حيث أثرت المملكة تأثيرًا مباشرًا في بعض الأحيان وغير مباشر في أحيان أخرى في اندثار بعض هذه الجماعات بمحاربتها، فيما أنشأت بعضًا آخرًا منها على عينها وبأموالها.
وإذا أردنا تطبيق هذه المقدمة عمليًا فلن نذهب بعيدًا في التاريخ، حيث تأثير المملكة النفطية المباشر على جماعة الإخوان المسلمين كبرى حركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، والتي مرت علاقتها بالسعودية بمنحنيات عدة، كان آخرها هبوطًا عندما ساهمت السعودية بشكل فج في إسقاط الرئيس المصري السابق محمد مرسي الذي خرج من رحم الجماعة ليصل أول رئيس جمهورية منها إلى سدة الحكم، ثم يسقط على يد الدعم السعودي لانقلاب عسكري قاده وزير دفاعه عبدالفتاح السيسي تحت سمع وبصر المملكة ودعمها المالي السخي.
عقب هذه الأحداث وضعت السعودية الجماعة على لوائح الإرهاب ودخلت في صراع مفتوح معها في عدة مناطق ملتهبة في الإقليم، حتى تحول المنحنى إلى الصعود مجددًا مع وفاة الملك الراحل عبدالله وتولي الملك سلمان زمام الحكم في المملكة، حينها بدأ ترتيب سعودي جديد في صياغة العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين إقليميًا لا سيما في سوريا واليمن.
وبعيدًا عن جماعة الإخوان المسلمين كمثال، لا يمكن التغافل عن الحركات السلفية التي تدعمها السعودية منذ عشرات السنين في كافة بلدان العالم وتمولها بشكل مباشر لأهداف سياسية ومذهبية، وحركات جهادية أخرى تورطت السعودية في دعمها حينها وقاتلتها حينًا آخر، كل هذا يمكن القول بأنه كان خارج حدود المملكة، فماذا عن الداخل السعودي؟!
بالطبع كان لعلاقة السعودية بالإسلاميين عامة ارتدادات داخلية تشكلت على إثرها كيانات ومجموعات إسلامية في المملكة، برزت توجهاتها للعلن أكثر فأكثر واختلفت فيما بينها أيضًا، خاصة بعد ثورات الربيع العربي بين مؤيد ومعارض، كما ظهرت هذه الاختلافات في الموقف من الانقلاب العسكري في مصر، حيث شهدت السعودية ظهور جناح إسلامي ديمقراطي يدعو إلى الإصلاح ورافض ولو ضمنًا لسياسات المملكة الإقليمية فيما يخص محاربة الثورات تحت زعم “منع تصديرها”.
كل هذه التقلبات بين الإسلاميين والإدارة السعودية في مختلف مراحلها، تطرح تساؤلًا عن علاقة الإسلاميين السعوديين بالقرار السعودي وتشكيله ومدى تأثيرهم فيه، وقبيل معرفة هذه الأمور أو الولوج فيها علينا أن نتعرف على خريطة الإسلاميين في السعودية.
خريطة الإسلاميين في السعودية
الحالة الإسلامية السعودية لا تستطيع أن تدخل إليها إلا بعد معرفة تاريخ الانقسامات بين ما يُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” حيث ظهرت التيارات السياسية الإسلامية الحركية في السبعينات من القرن الماضي المتناحرة فيما بينها دائمًا وحتى ظهور تيار الحقوق المدنية مؤخرًا الذي تبنى خطاب الحقوق والحريات.
فحينما تنظر بشكل عام إلى التيارات التي نشأت حركية تجد تيار الإخوان المسلمين الذي له جذور تاريخية في المملكة نتاج أحداث إقليمية في محيط السعودية كانقلاب 1952 في مصر والحقبة الناصرية بشكل عام التي اضطهدت الجماعة، ولكن حركة الإخوان المسلمين هناك كان لها نصيب من البيئة المحيطة فأصبح لها بُعدًا سلفيًا بشكل أو بآخر وانقسمت على نفسها حتى تأثرت بالمناطقية وأصبح هناك إخوان الحجاز وإخوان المنطقة الوسطى، لكن كانت هذه الانقسامات أقل حدة من نظيراتها في الفئة السلفية من الإسلاميين.
فحينما ظهر الطيف السلفي الحركي في المملكة شهد صراعًا حادًا فيما بينه وظهرت السلفية السرورية “نسبة إلى أشهر رموزها محمد سرور زين العابدين” التي كانت أقرب إلى الإخوان المسلمين في الفكر السياسي، وهي التي تصارعت مع السلفية العلمية التي كانت أقرب إلى الحاكم في السعودية ورفضت الحديث في السياسة بشكل مطلق وقد استنسخت السعودية قواعد لها في عدة دول بالشرق الأوسط.
أما الجناح الثالث في الأطياف السلفية الحركية التي ظهرت كانت السلفية الجهادية على اختلاف تنويعاتها الداخلية بداية من القاعدة وروافدها إلى الجماعات التكفيرية الأخرى التي دخلت في صراع مع الأسرة الحاكمة في المملكة امتد إلى خارجها في العالم كله، وقد يُعزي البعض ومنهم باحثين غربيين الآن ظهور تنظيمات مثل “داعش” إلى السعودية وسياساتها الداخلية التي أفرزت مثل هذه الافكار التي تتشابه كثيرًا مع أفكار تيارات سلفية تدعمها المملكة.
إلى أن ظهر تيار جديد من الإسلاميين تزعمه بعض الدعاة الخارجين من عباءة السلفية السرورية وجماعة الإخوان ينطلق من مفاهيم مستحدثة كالإصلاح وحقوق الإنسان والتعددية السياسية، وهو تيار متعايش مع الحداثة بشكل كبير، كما قام هذا التيار بعمل مراجعات لأفكار التيارات الإسلامية في السعودية وبدأ يُخرج طرحه الخاص بداية من المستجدات التي ظهرت على الساحة الإقليمية والدولية، لا سيما حادث الثورات العربية.
كيف تتعامل الإدارة السعودية في الحكم مع كل هذه التشكيلات؟
يُشير ستيفان لاكروا مؤلف كتاب “زمن الصحوة .. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية” والذي يتحدث فيها عن ميدان السلطة في السعودية وعلاقة هذه التشكيلات الإسلامية المتداخلة والمتقاطعة به، حيث يقول بأن هذا الميدان الاجتماعي متقطع بفعل الدولة، بمعنى أن المجال السياسي والديني تم تقسيمهم بشكل أو بآخر، فتجد ثمة رموز علمية لا تستطيع أن تتحدث في السياسة ومجالها الأساسي الدعوة والوعظ أي أن هذه الرموز مستقلة عن المجال السياسي.
كذا الحال في بقية القطاعات في المجتمع تم التعامل معها على أنها قطع متناثرة لكل حالة طريقة تعامل خاصة بها، فهذه التيارات غير العنيف منها يأتي بالشدة تارة وباللين تارة أخرى، والعنيف منها يستلزم المواجهة وعزله عن المجتمع، ومن ثم تحدث فجوة بين هذه الحركات جميعها لا تستطيع أن تتوحد كمعارضة أمام الدولة على سبيل المثال نظرًا لإستراتيجية التقطيع المتعمد التي تنتهجها الإدارات السعودية المتعاقبة وهي الرؤية التي أكدها لاكروا في كتابه.
وقد ذكر أيضًا في كتابه نجاح هذا المنهج في التعامل مع هذه الحركات التي باتت تشكل حيزًا اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا من المملكة ولكنه منعزل عن طبقات الحكم الأخرى، هذا النجاح ظهر في عدم استطاعتهم القيام باحتجاجات معارضة حقيقية تهز بنية السلطة السعودية، وظهروا وكأنهم يفضلون التعايش مع هبات القصر الملكي، على عكس الحراك الشيعي على سبيل المثال الذي يستغل نقاط قوته ضد الدولة السعودية في كثير من الأحيان.
استدعاء عند الحاجة وتنكيل عند الخلاف
درجت العادة لدى الإدارات المتعاقبة على العرش السعودي أن تتم الاستعانة بالإسلاميين ككل وقت الحاجة لأمور التجييش والحشد، حيث إن المملكة بطبيعتها تنطلق في قراراتها دائمًا بتأصيلات من هيئة كبار العلماء في السعودية – أو هكذا تحب دائمًا أن تُروج -، واستخدام رموز الحركات الإسلامية ليس ببعيد عن هذه السياسة التي تستخدم في استنفار المشاعر الإسلامية لخدمة قضية تريدها السلطة بالأساس، وغالبًا ما يقع الإسلاميون السعوديون بكل سذاجة في هذا الفخ، ومع أول خلاف في وجهات النظر تنكل الدولة ببعضهم.
حيث تصدر الأسرة الحاكمة نفسها للإسلاميين بشكل عام كحامية للدين ومنشئة لنظام الحكم الإسلامي المبتغى الذي يداعب أحلامهم، وتتمسك في أمر المظاهر الإسلامية الداخلية وتصر على استخدام مصطلحاتها الشرعية كالزكاة والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يُساعد على تصدير مفهوم الحكومة الإسلامية عند مجموعات الإسلاميين التي ترى أن هذه نواة لدولتهم المتخيلة وإن شابها بعض الخلل الذي عليهم إصلاحه من خلال معارضتهم المستأنسة.
أما في أوقات الخلاف المحورية خاصة في القضايا الإسلامية تفرض الدولة السعودية وجهة نظرها الرسمية بالحديد والنار على الإسلاميين وغيرهم، فحينما قامت الثورات العربية صدرت عدة تأييدات من رموز إسلامية حركية سعودية فور اندلاعها، لكن الرواية الرسمية السعودية التي تبنتها كانت تؤكد حرمة هذه الاحتجاجات وتدعو إلى وقفها فورًا، بل وساندت رؤوساء الدول العربية التي قامت بها الثورات وقد ظهر ذلك جليًا في موقفها من استقبال زين العابدين بن علي الرئيس التونسي الهارب، وكذلك دعم حسني مبارك في مصر لمنع محاكمته محاكمة جدية، وكذلك محاولة الإبقاء على الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح.
فيما دأبت المؤسسة الدينية الرسمية في التصدي لأي تحركات إسلامية داخلية تدعو إلى إطلاق الحريات الشخصية والسياسية في المملكة مدعومة بإجراءات قمعية لأي تحالفات بين التيارات الإسلامية والليبرالية في المملكة التي تطالب بالتحديث وغيرها من المطالب التي تتصدى لها النخبة التقليدية في المملكة باعتبارها دعوات خطيرة على المجتمع السعودي لأنها دعوات علمانية تتلبس ثوب إسلامي بحسب وصفهم.
أما عند احتدام الخلاف تستطيع أن تحصي الآلاف من الإسلاميين داخل السجون السعودية بتهم وبغير تهم تمارس السلطات السعودية بحقهم التنكيل على خلفية معارضة سياسية أو اجتماعية.
نقاط الاتفاق
ربما تكون نقاط الاتفاق بين الإسلاميين السعوديين وإدارة الدولة قد زادت عقب صعود الملك سلمان إلى الحكم بعد فترة مظلمة مع أخيه الراحل الملك عبدالله، وقد استبشرت العديد من رموز الحركة الإسلامية السعودية بعهد الرجل لا سيما على صعيد التحركات الإقليمية، للدرجة التي كتب فيها بعض الإسلاميين قصائد شعر ومدح في الملك الجديد.
ومن أبرز نقاط الاتفاق القديمة الحديثة هي الملف السوري حيث يشترك الإسلاميون والإدارة السعودية في رؤية شبه موحدة للصراع السوري وهي ضرورة إقصاء بشار الأسد من المشهد، كما تدعم الدولة حركات معارضة مسلحة بشكل مباشر، ويدعمها الإسلاميون أيضًا معنويًا وماديًا.
وقد استجدت إحدى نقاط الاتفاق بين الطرفين أيضًا مع صعود القضية اليمنية على الساحة، حيث رؤية هذا التدخل العسكري في اليمن من وجهة نظر دينية لدى الطرفين، بتصوير هذه الحرب على أنها تصدي للمد الشيعي في المنطقة الذي يمثله “الحوثيون” في اليمن.
وتقودنا هذه الرؤية أيضًا إلى منطقة أوسع للنظر في كيفية رؤية الإسلاميين في السعودية للشيعة، ونستطيع أن نقول أن نظرتهم للشيعة نظرة تختلف عن باقي الحركات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط حيث تتسم بحدة أكثر من غيرها نظرًا لارتباطها بوجهة نظر الدولة السعودية نفسها في الأمر، وقد ظهر ذلك في اتفاق الإسلاميين مع الدولة السعودية في أمر قمع احتجاجات البحرين بوصفها انتفاضة شيعية وكذلك في رفضهم لحراك المنطقة الشرقية في السعودية، ودعمهم للخطاب الطائفي السعودي الرسمي الذي يواجه إيران.
ويأمل الإسلاميون السعوديون من هذه الهدنة مع النظام الحاكم حاليًا بعد زيادة رقعة الاتفاق بسبب الظروف الإقليمية أن تتغير سياسة المملكة تجاه الحركات الإسلامية بشكل عام في المنطقة خاصة فيما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين إقليميًا، عن طريق إقناع الإدارة السعودية بضم الجماعة إلى جوارها في حلف سني يواجه إيران بعد الاتفاق النووي الذي وقعته مع الغرب، وقد يرى البعض أنهم نجحوا جزئيًا في تخفيف حدة المملكة تجاه الجماعة بمستوٍ ما، وذلك عبر مجموعة من الشواهد التي تُساق لدعم هذا الاتجاه مثل استقبال وفد من حركة حماس، ودعوة الدكتور يوسف القرضاوي لحضور اجتماع ديني في المملكة رغم أن الرجل معروف بأنه أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين.
ولكن البعض الآخر يرى أن هذه التغييرات تظل شكلية ما لم تتدخل السعودية لوضع حل للمسألة المصرية، والذي يبدو أنه طلب صعب المنال لأن كثيرًا ما خرجت تصريحات رسمية من المملكة تؤكد صعوبة التخلي عن الشراكة الإستراتيجية مع الجيش المصري، وأن أية خلافات طارئة مع الجانب المصري في هذا التوقيت لا يعني فض هذه الشراكة بأي حال من الأحوال، لذلك يرى محللون أن مسألة التقارب مع جماعة الإخوان المسلمين مجددًا هي مسألة شكلية على مستوى العلاقات وجوهرها برجماتي في ملفين محددين (سوريا – اليمن)، أما غير ذلك فلا يُعد أكثر من كونه شكليات.
هذا الاستعراض لدور الإسلاميين في السعودية يمكن القول بعده إن تأثيرهم على القرار السعودي محصور للغاية في بعض القضايا الاجتماعية غير المؤثرة، وتأييد بعض القرارات الخارجية الإقليمية مع عدم استطاعة ممانعة الكثير منها، لكن بشكل عام تعمل إدارات المملكة المتعاقبة على احتواء الحركات الداخلية الإسلامية كما تعمل في نفس الوقت على منع تمددها بحصر حركتها في بعض الرموز الذين يسهل السيطرة عليهم وقت الحاجة، وما عدا ذلك فهو اختلاف في آليات استخدامهم لتسويق قرارات سياسية أو غيره كما ذكرنا من قبل.