سلطة التشريع في مصر باتت مصدرًا يتقوت منه النظام الحالي مع الركود الاقتصادي الذي ظهرت آثاره جلية في الآونة الأخيرة، هذا بجانب كونها مصدرًا أساسيًا لتقنين القمع ضد المعارضين للنظام وتحصين رؤوسه من أية مساءلة قانونية على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وقد جمع التعديل الجمهوري الأخير لقانون السجون الذي أصدره الرئيس عبدالفتاح السيسي مؤخرًا بين الشقين.
إذ شمل القرار الجمهوري الحامل رقم 106 لسنة 2015 تعديل 14 مادة من القانون رقم 396 لسنة 1956 بشأن تنظيم السجون، وإضافة أربع مواد أخرى جديدة، وتم ذلك بموجب سلطة التشريع الممنوحة للسيسي في غياب البرلمان، حيث صدر هذا القرار قبل أسابيع قليلة من ولادة مجلس نواب تخول له تلك المهمة حيث انتهت أولى جولات انتخاباته قبل أيام.
التعديلات تلك قننت بشكل واضح أمر التعذيب داخل السجون، وسهلت كثيرًا من عملية القتل بسماحها باستخدام القوة مع المسجونين دون تحديد لضوابطها سوى ببعض الكلمات المطاطية، وتحكمت أيضًا في منع الزيارات عن أسر المعتقلين، وزادت من التعسف بحقهم حد التغريم المالي والسجن، وبعدم الخوض كثيرًا في تفاصيل مخالفة التعديلات الجديدة لمواثيق ومعاهدات دولية عدة موقعة عليها مصر، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين، وكذا اتفاقيات مناهضة التعذيب، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، ففي هذا الصدد يطول الحديث، كأن الدولة هنا تصر على إثبات عدم مبالتها بأي حقوق إنسانية لمواطنيها، وبعدما كانت القوانين تُخالف علانيةً بات تنفيذها واجب وطني لا يخالف هوى الدولة في التنكيل والتعذيب والإقصاء.
ربما جاء تعديل المادة الأولى شكلي باعتبار السجون دار إصلاح تهدف لرعاية وتأهيل السجناء دون تحديد الأدوار والآليات في تحقيق هذا الهدف، فكانت بداية التعديلات لذر الرماد في العيون ليس إلا بكتابة عبارات محفوظة ربما تُجمل ما بعدها من قُبح، تساعد على تمرير كوارث قانونية تنسف حقوق السجناء، فتعديل المادة الـ 14 تشي بـ”سمسرة” الدولة واختلاسها لكل الفرص التي تمكنها من جباية المال لسد العجز الاقتصادي الذي تعاني منه الدولة.
المادة تحدثت عن مبلغ لا يقل عن 15 جنيهًا ويزيد بالطبع في اليوم يتكبدها المعتقل المحبوس احتياطيًا حال رغبته في أن يتم احتجازه بغرفة مؤثثة، ورغم أن الأمر كان يحدث بالفعل حيث يتم رشوة ضابط بالسجن لنقل المعتقل في مساحة أكبر مثلًا أو لتوفير غطاء أو مرتبة للنوم وفي حالة الحظ السعيد يوفر سرير للمعتقل، إلا أنه كان متعارفًا على كون ذلك الأمر كرشوة وليس قانون إيجار للسجون، علاوةً عن تضرر الفقراء ممن لن يستطيعوا توفير إيجار الزنزانة اليومي، ليزيد التمييز والطبقية داخل السجون أيضًا.
“يكون لكل محكوم عليه الحق في التراسل والاتصال التليفوني بمقابل مادي ولذويه أن يزوروه مرتين شهريًا تحت رقابة وإشراف إدارة السجن”، على هذا نص تعديل المادة 38 الذي ربما يُرى كونه دس السم في العسل في نصف المادة الأول، فقد وفرت الدولة للمسجون المحكوم عليه حق التواصل مع أهله من خلال الهواتف والرسائل لكن تركت لإدارة السجن الحرية في تحديد المقابل المادي أو منع وإقصاء البعض عن هذا الحق، أما الجزء الثاني من المادة فقد صعّب تواصل المعتقل مع أهله بسماحه بزيارتين شهريًا فقط يُمكن أن تُلغى من إدارة السجن بحسب ما سمح لها القانون، فلم يحدد ظروف وملابسات وأوقات منع الزيارة بشكل دقيق يمنع التلاعب بها من خلال إدارات السجون المختلفة.
المادة 34 شرعت عدة جزاءات وعقوبات وصلت إلى تشديد الحراسة على المعتقل في غرفة خاصة والحبس الانفرادي وإنزال المعتقل درجات أقل مما هو عليها، وبذلك قُننت تلك العقوبات المصنفة أصلًا كونها جريمة حيث تعد شكلًا من أشكال التعذيب، وبذكر أن مصطلح غرفة خاصة شديدة الحراسة استحدث في تلك المادة فيمكن أن تكون غرفة تعذيب مقننة حيث لم يتم تحديد أي معلومة تخص هيئتها وسببها، تلك الجزاءات تحرم المعتقل مما وصفه القانون “الامتيازات” المقررة له.
وبدلًا من تقليل العقوبات لتقليل الانتهاكات التي تمارس على إثرها فقد زاد منها القانون في تلك المادة إلى 6 بدلًا من أربعة، كما أن المادة لم تتحدث بالتحديد عن حيثيات وأسباب تلك العقوبات، ولم تضع كذلك سقف زمني لعدد مرات تنفيذ تلك الجزاءات، ما يعني أن المعتقل معرض للتكدير في أي وقت وبأي سبب ولعدد مرات غير معلوم.
وفيما تسعى العديد من الدول لإلغاء عقوبة الإعدام تفندها مصر مرةً أخرى، لا بإصدار مزيدًا من أحكام الإعدام التي طالت ما يقرب الألفي شخص خلال عامين من الحكم العسكري بل بمواد تؤكد استمرار وجود تلك العقوبة، إذ إن المادة 68 تنص بعد التعديل على: “يوقف تنفيذ عقوبة الإعدام على المحكوم عليها الحبلى إلى ما بعد سنتين من وضعها”، فلا وقف تام للعقوبة بل إرجاء إلى وقت آخر، وهو ما يعضد من الإصرار على وجود عقوبة الإعدام عامةً ووجودها ضد المرأة خاصة، ويعضد كذلك عقوبة الإعدام الصادرة بحق عدد من الفتيات والسيدات في قضايا سياسية بينهم سيدة معتقلة، في محاكمات افتقرت لمعايير وضعها المجتمع الدولي لتقييد تنفيذ تلك العقوبة.
فيما استبدلت المادة 73 دور المجلس القومي لحقوق الإنسان بدور وزارة الداخلية التي عظم شأنها دونًا عن المجلس الحقوقي في التعديل، فأصبح دور تفتيش ومراقبة السجون في أي وقت أساسي لقطاع مصلحة السجون التي هي المشرف الأصلي عليها، بينما باتت بموافقة مسبقة من النيابة العامة لأعضاء المجلس القومي وليست بمجرد الإخطار، ومسببة حال وصولها شكاوى، ومراقبة برفعها التقارير لمساعد الوزير لقطاع مصلحة السجون والنيابة العامة المختصة، بتجاهل كونه المسؤول الأول عن السجون فيكون المبرر والمفسر لأي خطاب، كما اعتبرت المجلس شبه التابع للحكومة معبرًا عن المجتمع المدني وباقي منظمات حقوق الإنسان وكأنه ممثل عنها رغم مشاركاته السابقة المعروفة في التستر على جرائم الدولة وتجميلها.
أما المادة 92 فقد وسعت من أفق التضييق والعنف ضد أهالي وأسر المعتقلين والمحبوسين، فوضعت لهم عدة غرامات مالية وأخرى تقضي بالحبس حال إدخال “أشياء مخالفة للقانون”، أو “إدخال رسائل تخالف النظام المقرر بالسجون”، “إعطاء شيء ممنوع” والتي لم توضح وتحدد وتركت فضفاضة لتسهل اعتقال أهالي المعتقلين هم أيضًا أو أقل القليل التنكيل بهم دون اعتراض منهم خشية تطبيق القانون، إذ نصت المادة على أن”يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر وغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد عن 5000 جنيه أو بإحدى هاتين العقويتين” من يتهم بـ “الأشياء” المجهولة تلك.
المواد الأربعة التي أُضيفت للقانون لا تقل جرمًا عن التعديلات التي تمت، فالمادة الثامنة مكرر أجازت لقوات السجن استعمال القوة مع المسجون، والتي لم تحدد ماهيتها هي الأخرى ما يفتح مجال الإبداع في استخدام أي درجة من درجات القوة والتي تبدأ من التعذيب وتمتد لتشمل استخدام الرصاص ما يهدد حياة المسجونين، كما أنها تركت الباب مفتوحًا في حالات استخدامها، إذ إن استخدام القوة سمح به بكلمات فضفاضة واسعة من قبيل “مخالفة القوانين واللوائح”، ليصبح التعذيب مقننًا والمادة مبررًا لأي حديث عن انتهاك حقوق الإنسان.
من المواد التي أُضيفت للقانون واحدة برقم 33 مكرر ألزمت المنشآت الطبية الحكومية والجامعية بعلاج المسجونين المحالين إليها من السجون، وما يشكك في تنفيذ مثل تلك المواد التي ربما استخدمت لتلميع تمرير القانون هو وجود مواد شبيهة بها في الدستور تلزم الدولة بتوفير الرعاية الصحية للمسجونين، وبالطبع وفاة أكثر من 300 معتقل على مدار عامين بينهم نسبة ليست بالقليلة راحوا ضحية الإهمال الطبي والتعنت في النقل لأماكن مجهزة وتعنت المشافي الحكومية مع المرضي تؤكد صورية مثل تلك المادة، خاصةً وأن عدد كبير من المرضى المعتقلين يطالبون بنقلهم لمشافي على حسابهم الخاص دون تكبيد الدولة كل هذا العناء ويزال التعنت قائمًا حتى أودى بحياة عدد منهم.
التعديل على القانون لم يتطرق إلى تنظيم وضعية أطباء السجون وتغيير تبعيتهم الحالية لإدارة السجون كونهم تابعين لجهاز الشرطة، فهو يهدد أيضًا المادة 34 التي عدلت في القانون والتي تمنح طبيب السجن إمكانية النظر في حالة المرضى والذي بدوره إما أن يثبت مرضه وعجزه ليرسل أمره لجهة طبية أعلى تساعد في نقله إلى سجن مناسب ويتم إعفاءه من الأشغال، أو أن يتجاهل حالة المريض أمامه، ويتجاهل كذلك انتهاكات إدارة السجن بحق المساجين التي تتعلق بأمور سلامتهم وصحتهم.
تلك التعديلات والإضافات للقانون التي أقرت بانفراد السيسي دون أدنى إطار للشفافية فيها أو اعتبار للمجتمع المدني أو مخالفات دستورية أو مواثيق وعهود دولية جاءت في صدد واحد تقريبًا وهو زيادة القمع، مع الأخذ في الاعتبار بعض المواد التي عدلت وأضيفت لتمرير تلك الكارثة القانونية، ومن المعروف أنها ستصبح ديكورًا كسابقها من قوانين انتهكت وخولفت على مرأى ومسمع من الجميع، كما أنها خصت السجون فقط دون أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي والمؤسسات العقابية ومقار جهاز الأمن الوطني والمقرات العسكرية والأخرى السرية والتي بها عدد كبير جدًا من الـ 50 ألف معتقل سياسي – بحسب تقارير حقوقية -، هذا بخلاف آلاف من المجسونين على ذمة قضايا جنائية.