ترجمة وتحرير نون بوست
بالقدر الذي يمكن أن يكون فيه الحمل الأول جيدًا، شعرت ناصرة بأن حملها كان ممتازًا، فطفلتها داخل رحمها بدت صحيحة جسديًا، وهي ذاتها شعرت بأنها قوية، وجاهزة للولادة والأمومة، ومع كل فحص للحمل كانت الأخبار حول وضعها الجيد تتوالى تباعًا، حتى زيارتها النهائية في شهرها التاسع، وحينها أخبرها طبيبها، ببرود ولا مبالاة، بأن حوضها كان ضيقًا جدًا بشكل لا يناسب الولادة المهبلية، وسألها عن الموعد الذي ترغب بتحديده لعمليتها القيصرية.
“لم أكن أعرف إن كان يكذب أو يقول الحقيقة”، قالت ناصرة، وتابعت: “لكن هو الطبيب، وكان يقول لي بأنه يتوجب عليّ إجراء عملية قيصرية، أغلق الباب، ولم يكن لدي خيار آخر”.
ناصرة، التي تنحدر من قرية في أسوان في أقاصي جنوب مصر، لم يسبق لها وأن تساءلت حول الطريقة التي ستنجب طفلتها من خلالها، لقد أرادت أن تنجب بذات الطريقة التي أنجبت بها والدتها، عن طريق السماح لجسدها بدفع الطفل إلى الخارج، إنها عملية بسيطة وطبيعية، وعلاوة على كل شيء، رخيصة، فالولادة المهبلية الطبيعية تكلف حوالي 800 جنيه مصري، حوالي 100 دولار، أما الولادة القصيرية، في مستشفى المحبة في شبرا، فإنها تكلف حوالي 500 دولار.
ناصرة هي الزوجة الثانية لطابخ في مقهى، وهي لذلك تأتي أيضًا في المرتبة الثانية من الناحية المالية، وهي تدعم دخلها جزئيًا من خلال الراتب الذي تكسبه كبوابة، أي كحارسة مبنى سكني شاهق في وسط القاهرة.
اختارت ناصرة مستشفى المحبة لأن أسعاره كانت معقولة، وهو ليس مرعبًا، كالمستشفيات العامة المصرية، “المرأة تفعل جميع ما في وسعها لتجنب الولادة في المستشفى العام”، قالت ناصرة.
مستشفى المحبة، الذي يُدار من قِبل جمعية خيرية تابعة للكنيسة القبطية، وفّر لناصرة بيئة معقمة وجيدة للولادة وبسعر مخفض، ولكن مع ذلك، كلفة العملية القيصرية البالغة 4000 جنيه مصري، تعادل تقريبًا راتبها وراتب زوجها مجتمعين لمدة أربعة أشهر.
“بعد الولادة على المرأة أن تخضع لفترة نقاهة” قالت ناصرة، وأضافت: “في الولادة الطبيعية، يمكن للمرأة أن تتعافى بعد ثلاثة أو أربعة أيام، أما بالولادة القيصرية فقد تنتظر شهرًا أو شهرين بدون أن تتعافى”، ولكن في النهاية، ما هي الخيارات التي تمتلكها؟ فطبيبها قال لها بأنها يجب أن تنجب بعملية قيصرية، وهذا ما حصل فعلًا.
اليوم، 52% من النساء في مصر ينجبن بعمليات قيصرية، وذلك وفقًا للمسح الديمغرافي والصحي الجاري في عام 2014، وهذا المعدل أعلى بثلاث مرات ونصف مما ينبغي أن يكون عليه، آخذين بعين الاعتبار بأن منظمة الصحة العالمية “WHO”حددت معدل الولادات القيصرية بـ15% كحد أقصى، وعلاوة على ذلك، فإن معدل العمليات القيصرية قد تضاعف تقريبًا في مصر منذ المسح الديمغرافي والصحي السابق الجاري في عام 2008، حيث كانت التقديرات تشير إلى أن نسبة العمليات القيصرية لا تتجاوز الـ27%، ومن المتوقع أن تستمر هذه المعدلات بالارتفاع في السنوات القادمة، حيث يطلق الدكتور سامح صادق، مدير مركز الإسكندرية الطبي الإقليمي، على هذه الحالة وصف “المشكلة المستشرية”.
“لقد أصبحت العمليات القيصرية الإجراء الأكثر شيوعًا في المستشفيات الخاصة” قال صادق، وتابع موضحًا: “القطاع الخاص في مصر يجري 60% من الولادات، وهذه المستشفيات تقع خارج نطاق السيطرة”.
على الرغم مما تقدم، المشكلة لا تتعلق بالقطاع الخاص وحده، حيث وجد المسح الديمغرافي والصحي لعام 2008، بأن حوالي ثلث عمليات الولادة في المستشفيات العامة تمت من خلال العمليات القيصرية، فهناك العديد من الأسباب التي تدفع الأطباء في كل مكان لاختيار طريق الجراحة القيصرية، ولكن رفاه المريضات نادرًا ما يكون أحد هذه الأسباب، كما يقول صادق.
الدكتور وديع لبيب، طبيب التوليد في مستشفى المحبة، على سبيل المثال، يفضّل العمليات القيصرية لأنها أقل جلبة، حيث يقول: “إنها أكثر سهولة بكثير بالنسبة للأم، وللطبيب، وللطفل”، وأضاف موضحًا: “تنام الأم وتستيقظ بعد نصف ساعة ليكون طفلها بجانبها، والطبيب يقضي ربع ساعة فقط ضمن غرفة العمليات، بدلًا من الجلوس لنصف يوم كامل مع المرأة الحامل، إنه أمر سهل”.
الدكتور وديع لبيب يقوم بتوليد الأطفال منذ حوالي 30 عامًا، وفي هذه الأيام، يفضل توليد الأطفال من خلال العمليات القيصرية
يقدّر لبيب بأن عدد حالات العمليات القيصرية ضمن مشفى المحبة لا تقل عن 1600 عملية من أصل 2000 حالة ولادة تجري في كل عام، وهو لا يرى مشكلة في هذا، حيث يقول: “عندما درست في كلية ترينيتي في دبلن، قالوا لنا بأن نسبة العمليات القيصرية لا يجب أن تتجاوز الـ12%، ولكن ذلك كان قبل 30 عامًا، واليوم تغيّرت أشياء كثيرة، فالعملية أضحت سهلة للغاية”.
يشير صادق بأن هذا العقلية بالضبط هي السبب الجذري للمشكلة، حيث يوضح قائلًا: “هناك الكثير من النساء والأطباء يشعرون بأن العمليات القيصرية هي أكثر أمانًا، رغم أن العلم يخالف هذا المعتقد بشكل تام”.
يعمل صادق اليوم ضمن لجنة وطنية تراقب معدلات وفيات الأمهات خلال الولادة، وفي خضم إعداد لتقريره عن منطقة الإسكندرية لتقديمه ضمن الاجتماع الأخير، وجد صادق بأن جميع الوفيات التي وقعت أثناء الولادة على مدى الأشهر الستة الماضية حدثت خلال العمليات القيصرية.
خطر الموت
“فرصة الوفاة ضمن الولادات القيصرية تزيد بأربع مرات عن مثيلاتها في الولادات المهبلية” يقول صادق، ويتابع موضحًا بأن بعض الأطباء قد لا يستوعبون هذا الخطر، ولكن الكثير منهم يدركونه ومع ذلك يشجعون النساء للقيام بالعمليات القيصرية على أي حال، وفي كثير من الحالات، لا تحتاج المرأة للكثير من الإقناع، “النساء يعتقدن أيضًا بأن التكنولوجيا الحديثة أفضل، إنها تقدمية” يقول صادق، ومع الشيوع المطرد للجراحة كطريقة للولادة، أضحت هذه الطريقة للإنجاب أكثر شعبية على نطاق واسع؛ فمن خلال تجربة لبيب، النساء الوحيدات اللواتي يقاومن فكرة العملية القيصرية هم من لا يستطعن تحمل تكلفتها.
في الوقت الذي أظهرت فيه بيانات المسح الذي أُجري في عام 2008 بأن معدل العمليات القيصرية يتناسب طردًا مع ارتفاع الثروة، تُظهر بيانات عام 2014 بأن معدل الولادات القيصرية أصبح متماثلًا لدى كافة شرائح الدخل والمحافظات ومستويات التعليم؛ فالولادة المهبلية أضحت شيئًا من الماضي، وغدت الولادة القيصرية سبيل ولادة المرأة العصرية، حتى لو نجم عن ذلك ترتيب ديون جمة في ذمة العائلة.
ناصرة لا تزال تدين بمبلغ 250 دولار لولادتها القيصرية الثانية التي جرت منذ أكثر من عام، ففي الوقت الذي غطى فيه تأمين زوجها أغلب النفقات الطبية لأول ولادة قيصرية لها، رفضت الشركة المؤمنة تغطية ولادتها الثانية، بحجة أنه من اليوم فصاعدًا لن تُغطى إلا مصاريف الزوجة الأولى، إلا إذا وافق الزوج على دفع تأمين أعلى، وهو الأمر الذي لم يقم به زوج ناصرة.
نتيجة لضيق ذات اليد، اضطرت ناصرة للخضوع للعملية في مستشفى أرخص، واقترضت المال من أقاربها لدفع ثمن عمليتها القيصرية، وهذه المرة، لم تكلف نفسها عناء طلب الولادة المهبلية؛ فالحكمة التقليدية في مصر تقول بأن الولادة المهبلية بعد الولادة القيصرية هي أمر مستحيل، رغم أن عددًا متزايدًا من الأطباء المهنيين يصرون على عدم صحة هذا المعتقد، وهذه المعتقدات الخاطئة هي أحد العوامل التي ترفع معدل العمليات القيصرية، ولكن عمليًا، إنجاب المرأة من خلال عملية قيصرية، لا يحتم عليها الإنجاب بذات الطريقة في ولادتها المقبلة.
جميع صديقاتي أنجبن بعملية قيصرية
عندما تكون جميع صديقات المرأة وأقاربها قد خضعن لعملية قيصرية، ستصبح متأكدة من أنها، هي ذاتها، ستنجب بذات الطريقة، “أنا أدرك أنه في مصر سأخضع لعملية قيصرية على الأرجح” قالت أمل رأفت، وهي أم تتوقع الولادة قريبًا تنحدر من ضاحية القاهرة الغنية في 6 أكتوبر، وتابعت قائلة: “جميع صديقاتي أنجبن بعملية قيصرية”.
نتيجة لخوفها من احتمالية قطع جسدها بسكين، واعترافها، بضحكة مكتومة، بعدم رغبتها باحتمالية وجود ندبة نتيجة لذلك، باشرت رأفت رحلة البحث عن طبيب منفتح أمام خيار الولادة الطبيعية، وبعد بضع عمليات بحث على غوغل، وجدت نفسها في مكتب الدكتورة إيمان بسطويسي، التي تدير عيادة خاصة صغيرة في شارع 6 أكتوبر، والتي قامت بدورها بإحالة رأفت إلى صف لتعليم الولادة الطبيعية.
هذه الصفوف كانت إحدى بنات أفكار الدكتورة هناء أبو قاسم، استشارية النساء والتوليد بمركز الإسكندرية الإقليمي لصحة وتنمية المرأة، وإحدى رواد حركة تشجيع الولادة الطبيعية، فمنذ أن أدركت أبو قاسم مشكلة ارتفاع نسبة العمليات القيصرية قبل أربع سنوات، أصبحت أكبر معارض لهذا الاتجاه في مصر.
افتتحت أبو قاسم ضمن مستشفى الإسكندرية الذي تديره دورة تدريبية للقابلات، أي مساعدات الولادة، اللواتي يذهبن، بعد خضوعهن لهذه الدورات، للتدريس في صفوفهن الخاصة للولادة الطبيعية للأمهات الحوامل.
أبو قاسم صممت الصف التعليمي الذي خضعت له رأفت، حيث قامت بتدريب المرأة التي درّستها، كما تساعد أبو قاسم في قسم الولادات ضمن مستشفيات الإسكندرية، وتدافع عن النساء اللواتي يرغبن بالولادة الطبيعية متحدية الأطباء الذين يترددون بالسماح لهن بذلك، فضلًا عن أنها تدير عيادة ما قبل الولادة التي تملكها.
الولادة أصبحت عملًا تجاريًا
تخطط أبو قاسم أيضًا لعقد المؤتمر الدولي السنوي الثاني للولادة، الذي من المقرر عقده في الفترة الواقعة ما بين 30 أكتوبر و2 نوفمبر، حيث قامت باستقدام متحدثين من جميع أنحاء العالم، وتكلفت بمبالغ باهظة، على أمل استقطاب بعض زملائها المصريين لحملتها الداعية لتعزيز الولادة الطبيعية.
ومع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر، يجثم على كاهل أبو قاسم حمل ثقيل خوفًا من عدم نجاحه في نهاية المطاف؛ ففي الوقت الذي استطاعت فيه فصولها التدريسية وبرامج التدريب التي افتتحها إثارة اهتمام وثناء النساء المغتربات، لم تدرب أبو قاسم إلا قابلة واحدة فقط ضمن برامج التدريب حتى الآن، كما أن حملتها التي لاقت نجاحًا كبيرًا في تغيير عقول النساء الحوامل، لم تستطع بعد أن تصل إلى زملائها من الأطباء المهنيين، “لا أعرف أي شخص آخر يقوم بهذا النوع من العمل”، قالت أبو قاسم.
تواجه أبو قاسم اليوم معركة شرسة لإقناع الأطباء الذي يتقاضون أجورًا شحيحة، باستبدال العملية القيصرية السريعة والمجزية بالولادة الطبيعية الطويلة والزهيدة الأجر، وكما يقول صادق: “أغلب اللوم يقع على كاهل وزارة الصحة المصرية لسماحها بوصول الأمور إلى هنا”، ويضيف قائلًا: “النظام الصحي المصري معقد ومشتت، ففي النهاية، 70% من ميزانية قطاع الصحة تُحصّل من جيوب المواطنين”، أو طبقًا لتعبير ناصرة “لقد أصبحت الولادة عملًا تجاريًا”.
المصدر: ميدل إيست آي