للاطلاع على الجزء الأول من هذا المقال
انتهاء العصر الفكري للإخوان يلزمه منافس قوي يزيحه من المشهد ويطرده من ملعبه، أقوى المنافسين للفكر الإخواني حاليًا هو الفكر الجهادي بنماذجه القاعدية والداعشية، منافس قوي فكريًا خصوصًا مع حدوث الانقلاب وسفك الدماء وانتهاك الحرمات، وتأييد بعض القوى السياسية في الداخل وتأييد بعض الخارج وسكوت البعض الآخر.
هذا الانقلاب أوصل قطاعًا من الإسلاميين وحتى من الشباب غير المُسيس إلى عدم جدوى التغيير السلمي والديمقراطية، وأن الحل مع هذه الأنظمة هو قتالها وحمل السلاح عليها، والإخوان وتنظيمهم تعودوا على القهر، الحبس، الاعتقال، التشريد، والخنوع – من وجه نظرهم طبعًا – من عبدالناصر وحتى الآن، فهؤلاء لا مكان لهم بيننا ولا نريدهم ولن نؤيدهم بعد ذلك.
هذه المنافسة حدثت من قبل في أثناء المحنة الناصرية، صراع بين فكر الإخوان والفكر التكفيري والذي يوصل للفكر الجهادي، حدثت في عهد المرشد الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي في سجون عبدالناصر، عندما كفَّر بعض الإخوان عبدالناصر، زبانيته، مؤيديه، مناصيره، والشعب الذي رضى به سفاحًا وقاتلًا ومستبدًا، تصدى لها المستشار الهضيبي وبعض قادة الإخوان، وأصدروا الكتاب الشهير “دعاة لا قضاة” ردًا على انتشار هذه الفكرة ودحرًا لها.
الآن الأمر مختلف من عدة جوانب، وإن كانت الجماعة سابقًا نجحت في تجاوز محنة كهذا ليس شرطًا أن تتجاوز محنة حالية، بسبب تغير الظروف والبيئات.
من هذه التغييرات؛ أن الفكر الجهادي في فترة عبدالناصر لم تكن له تجارب ناجحة تبهر الناس وتجعلهم ينجذبون لها ويفرحون بها وتبهرهم قوتها، أما الآن فالتجارب الجهادية ناجحة نوعًا ما وتفتن كثير من الناس ومن الإسلاميين بقوتها وقدرتها على الرد.
من المتغيرات أيضًا صعوبة السيطرة على تدفق الأفكار وانتقالها وانتشارها، في عصر الإنترنت والثورة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، لا قدرة لديك على منع هذا الشلال الضخم من المعلومات والأفكار، لا يمكنك إحاطة المؤيدين لك بسور فكري قوي بسهولة، ستهاجمك الأفكار في عقر دارك وفي أي مكان.
في عهد عبدالناصر لم يكن لهذه الثورة الإلكترونية وجود، ومع الوجود في المعتقلات وانحسار الحركة سهل ذلك مواجهة هذا الفكر بالمناقشة والحوار والضغط، ومع عدم وجود موارد تغذي هذه الفكرة سواء أكانت موارد عقلية أو فكرية أو إعلامية أو ثقافية استطاع الإخوان نوعًا ما السيطرة على عدم انتشار هذا الفكر داخلهم، ولكنه لم يكن نجاحًا بنسبة مائة في المئة، وخرجت كل الأفكار الجهادية والتكفيرية من سجون الطاغية عبدالناصر.
طالما استمر الوضع في مصر على حاله، واستمرت حملات القمع والقتل والانتهاك؛ سوف يظل الفكر الجهادي حاضرًا وينمو ويتمدد، وطالما ظلت جماعة الإخوان تسير في طريق مواجهة الانقلاب دون إستراتيجيات واضحة وخطط دقيقة ستظل تخسر فكريًا وتنظيميًا لصالح الفكر الجهادي.
فعلى جماعة الإخوان إما أن تتقدم للأمام وتعمل على تطوير فكرها ليدخل في مرحلة متقدمة تتجاوز حاجز الأيدلوجيا، وتنتقل إلى المنافس الثاني لها بإرادتها، وهو الإسلام الليبرالي أو أيما كان يُسمى، أو تعمل على تطوير أدواتها في مواجهة الانقلاب لتُعيد لها مؤيديها ومنتسبيها الذين فقدتهم بسبب عدم الإنجاز والتقدم للأمام وكسب مساحات ضد الانقلاب.
الإسلام الليبرالي أو المنفتح أو المتجاوز لضيق الأيدلوجيا أو الإسلام المقاصدي أو الليبرالية الأخلاقية مهما كان المُسمى، في الظروف الحالية ليست منافس قوي، لأنها تحتاج للبيئات الديمقراطية الحرة لتنمو فيها، بيئة تعمل على تطور الأفكار ونضوجها وتقدمها.
ويا ليت الإخوان يأخذون خطوة للأمام وينتقلون هم بإرادتهم لهذا الفكر، ويعملوا على مراجعة كثير من الأفكار والأطروحات والآراء التي تجعلهم منغلقين على ذواتهم، متقوقعين في أيدلوجيتهم، بعيدون كل البعد حتى عن طموحات مؤسسهم وأفكاره.
هكذا نكون أجبنا عن السؤال الأول وهو، متى ينتهي العصر الفكري؟ وننتقل للإجابة عن السؤال الثاني وهو، متى ينتهي العصر التنظيمي؟
ينتهي العصر التنظيمي عندما تنتهي الفكرة التي يقوم عليها التنظيم، أو عندما ينشأ تنظيم جديد يحمل نفس أهداف الفكرة لكنه يحقق نجاحات وقفزات في مجال تحقيق أهدافه، أو يتعرض التنظيم لضربة قاصمة وقوية لا تبقي له أحدًا ولا تذر له فردًا.
ناقشنا فكرة انتهاء العصر التنظيمي بانتهاء العصر الفكري، ومن هم منافسي الفكر الإخواني على الساحة، الذين لديهم القدرة على أن يسحبوا أعضاء تنظيم الإخوان ناحيتهم، لتفقد الجماعة منتسبيها الذين ما عادوا يؤمنون بفكرها.
أما الطرح الثاني، وهو نشوء تنظيم يحمل نفس الأفكار ولكن يختلف في الأداء والإستراتيجيات والأوليات، يبدأ في العمل ويحقق إنجازات وقفزات عالية تجعل المؤيدين ينسحبون من القديم إلى الجديد، حتى يفقد القديم هيكله ويبقى كشاهد على أن الزمان كان هنا يومًا ما.
من الأمثلة القريبة من هذا الطرح – وإن كان حزبيًا – هو حزب السعادة التركي وسيره على الطريقة الأربكانية وحزب العدالة والتنمية، السعادة ومن قبله الرفاة ومن قبله الفضيلة مثَّل تنظيمًا حزبيًا لفكرة ما فشلت وأُفشلت في عدة مراحل، نشأ تنظيم حزبي آخر يحمل نفس الأفكار ولكن يختلف في الرؤى والإستراتيجيات والأوليات.
انتقل كثير من المؤيدين للتنظيم الجديد، الذي حقق نجاحات باهرة واستطاع أن يحقق كثير من الأهداف التي عجز التنظيم الحزبي القديم على تحقيقها، اختفى التنظيم القديم وغاب نجمه وأصبح من حكايات التاريخ التي يجب أن يُستفاد منها.
الطرح الثالث وهو الطرح العنيف في مواجهة التنظيم، والذي يعتمد على أساليب وأفكار قمعية استبدادية، تعتمد أسلوب الاعتقال، القتل، التشريد، قطع الأرزاق، التنكيل، الإعدامات، والمحاكمات، طريقة اعتمدها عبدالناصر وحافظ الأسد والقذافي.
تبدأ باعتقال قيادات التنظيم من الصف الأول والثاني والثالث ليصبح التنظيم بلا رؤوس، ويتم استهداف ذوي التأثير الفعال والقوي، ثم اعتقال أكبر قدر من المؤيدين والمنتسبين والمحبين، والتنكيل بهم وبعائلتهم وذويهم وأهلهم، ثم تأتي مرحلة قطع الأرزاق والفصل من العمل ومصادرة الأموال وإغلاق الشركات والمصانع، ثم مرحلة التصفية الجسدية المباشرة بالقتل أو الإعدام أو الموت تعذيبًا، وغير المباشرة بسوء الأحوال المعيشية في السجون وانتشار الأمراض بها وعدم الرعاية الصحية للمعتقلين.
وتأتي مرحلة التهجير، والتي يجد فيها مؤيدي التنظيم ممن هم خارج السجون أن يتركوا بلادهم ويرحلوا بلا عودة، هجرة جماعية لأفراد كُثر يتركوا بلادهم خوفًا من بطشها، فليس أمامهم إلا الهجرة أو القتل أو السجن.
ولا تكتفي الدولة بهذا بل تطاردهم في منافيهم وتحاصرهم وتضغط على حكومات البلاد المضيفة على إخماد أصواتهم، ولن تتورع هذه الدولة عن اغتيال بعضهم لو بدأوا يشكلون خطرًا ويصنعون فرقًا.
وهكذا وبمرور السنوات يبدأ التنظيم في الخفوت حتى ينتهي ضوءه، ويصبح كل فرد فيه يحمل فكرته في قلبه ويعيش بها، ولكنه لا يستطيع أن يعلنها أو يعمل لها وبها، يحمل فكرته منتظرًا ساعة الخلاص التي قد تأتي وقد يموت دونها.
النظام الانقلابي المصري يسير على هذا الكتالوج جيدًا ويتقدم فيه ويحرز أهدافه بدقة، ويستغل خدماته التي يقدمها لإسرائيل وأمريكا وأوروبا في مساعدته على إنجاز خطته أو على أقل تقدير السكوت عنها أو انتقادها من أجل حفظ ماء الوجه لا أكثر.
وفي النهاية هل انتهي عصر الجماعة؟
تصعب الإجابة على هذا السؤال بنعم أو بلا، لكن الجماعة فكريًا لديها منافس قوي يحمل نفس التوجه ويحقق انجازات، يكفي أنه يقتص من أعدائه وينتقم لشهدائه، يرفع شعار الجهاد سبيلنا والذي من المفترض أنه من شعارات الإخوان.
والمتابع لإعلام هذا التيار الجهادي يلاحظ ذكاء العاملين عليه، والذين يلعبون على وتر، ماذا فعلت لكم جماعة الإخوان بخنوعها وسكوتها؟ نحن أولى بكم منهم، وتنظيميًا يواجه الإخوان حربًا ضروس، ولا تظهر معالم على وجود خطة واضحة ومحددة للمواجهة والتقدم، أو لإحداث خرق ما في جدار الانقلاب.
للأسف، إذا لم تتغير جماعة الإخوان، وتحاول أن تفكر خارج الصندوق، فقد يكون جوابنا على السؤال بعد زمن هو (نعم .. انتهى عصر الجماعة).